الإستراتيجية الأميركية للأمن القومي: رؤية إدارة ترامب للولايات المتحدة والعالم

انتقدت استراتيجية الأمن القومي الأميركي التي أصدرتها إدارة الرئيس ترامب أواخر العام 2025 استراتيجيات الإدارات السابقة، وشددت على ضرورة الوضوح في ما تريد الولايات المتحدة تحقيقه في العالم ومن العالم. تقدم هذه الورقة، قراءة لما قامت عليه الوثيقة من مبادئ وأولويات وما تسعى إلى تحقيقه من أهداف في مناطق العالم المختلفة.
(الجزيرة)

نشرت إدارة الرئيس دونالد ترامب رؤيتها الإستراتيجية لموقع الولايات المتحدة ودورها في العالم في الرابع من ديسمبر/كانون الأول 2025. تقع الوثيقة، المعنونة "إستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأميركية"، في 29 صفحة، يسبقها تقديم موقَّع من الرئيس نفسه في أقل من صفحتين. وقد قُسِّمت الوثيقة إلى عدة أقسام:

الأول منها مقدمة، تضمنت رؤية انتقادية لإستراتيجيات الإدارات السابقة منذ نهاية الحرب الباردة، وما أسمته الوثيقة "ضرورة الرئيس ترامب" التصحيحية لما ينبغي أن تكون عليه الإستراتيجية. والثاني، يستعرض مفهوم الإستراتيجية من وجهة نظر إدارة ترامب، بما في ذلك ما تريد الولايات المتحدة تحقيقه بصورة عامة، وما تريد تحقيقه في العالم ومن العالم. ويعالج القسم الثالث الأدوات التي تملكها الولايات المتحدة لتحقيق ما تريده. أما القسم الرابع والأخير، فيطرح صلب الرؤية الإستراتيجية تحت ثلاثة عناوين: المبادئ والأولويات ومناطق العالم كما تتصورها إدارة ترامب.

أثارت الرؤية الإستراتيجية مباشرة بعد نشرها تعليقات وقراءات من كافة الاتجاهات، سواء من معلقين متخصصين أو رجال دولة أو مقربين من أنظمة حكم في مختلف أنحاء العالم. وعلى الرغم من التنوع الهائل في خلفيات من تناولوا الوثيقة بالاستطلاع أو التعليق، برز ما يشبه الإجماع على أنها تمثل نقلة نوعية في رؤية واشنطن للعالم، وأنها تعلن ما يشبه الانسحاب من دورها التقليدي بوصفها القوة الكبرى المتفردة في الثلاثين عامًا الماضية.

هذه مطالعة أخرى للوثيقة، تحاول الاقتراب ما أمكن من وجهة نظر واضعيها وتفهُّم وجهة النظر هذه. كما هي مطالعة للمحددات الأميركية الداخلية، التي يمكن أن تقف أمام السياسات التي تعد بها الوثيقة، أو تجعل هذه السياسات قصيرة الأجل. وهي أخيرًا، مطالعة تحاول إعادة وضع الوثيقة في سياق التدافع الفعلي على الساحة الدولية.

الإطار النظري لإستراتيجية إدارة ترامب

يقول واضعو رؤية إدارة الرئيس ترامب بوضوح: إن إستراتيجيات الإدارات السابقة، على الأقل منذ نهاية الحرب الباردة، ضلَّت الطريق. فالإستراتيجية في جوهرها خطة متسقة، واقعية، تؤسس للشروط الضرورية التي تربط بين الأهداف والوسائل، أو بين ما يمكن تحقيقه والمقدَّرات المتاحة. ولكن إستراتيجيات الإدارات السابقة عجزت عن الارتقاء لما يجب أن تكون عليه الإستراتيجية الفعَّالة، وبدت كأنها تقدم حزمة من قوائم الأمنيات، دون أن تحدد على وجه الدقة ما تريده الولايات المتحدة. سعت نخب واشنطن في العقود الماضية إلى تكريس هيمنة أميركية على العالم برمته، بينما الصحيح أن نقتصر في اهتمامنا على دول العالم الأخرى طالما كانت نشاطات دولةٍ ما تهدد مباشرة أمن أميركا القومي. وكانت إحدى عواقب هذه المقاربة للعلاقات الدولية أن أفضت مفاهيم العولمة وحرية التجارة إلى تقويض القاعدة الصناعية الأميركية، وإلى إضعاف الطبقة الوسطى.

تقول الوثيقة: إن الأسئلة التي تواجهنا الآن هي:

1. ما الذي تريده الولايات المتحدة بالتحديد؟

2. ما الوسائل والإمكانات المتاحة لتحقيق ما نريد؟

3. كيف يمكن الربط بين الأهداف والوسائل في إطار إستراتيجية أمن قومي حيوية؟

في الإجابة على السؤال الأول، يقول واضعو الوثيقة: إن الهدف الأساسي هو المحافظة على وجود وأمن الولايات المتحدة، جمهورية مستقلة وسيدة، تقوم حكومتها على تأمين الحقوق التي وهبها الله لمواطنيها، معطية الأولوية لمصالح المواطنين ورفاههم. ولكن هذه إجابة عامة، تتعلق بما يجب العمل عليه سواء في السياسات الداخلية أو الخارجية. ولأن هذه الوثيقة الإستراتيجية تختص أصلًا بالسياسة الخارجية، فلابد من تقديم إجابة على السؤال في إطار من سياسات الولايات المتحدة في العالم. فما الذي تريده الولايات المتحدة من العالم؟

تقدم الوثيقة إجابة على هذا السؤال من خمسة أهداف: الأول: المحافظة على نصف العالم الغربي (أي الأميركتين) مستقرًّا بصورة معقولة، يُحْكَم بصورة جيدة، ولا يمثل تهديدًا للولايات المتحدة في أي صورة من الصور. بعبارة أخرى، تقول الوثيقة: إن إدارة ترامب ستقوم بالتأكيد على مبدأ مونرو (1823) وتطبيقه. الثاني: أن إدارة ترامب ستعمل على احتواء ودفع اتجاه السياسات التي أفضت إلى إيقاع قوى خارجية الضررَ بالاقتصاد الأميركي. الثالث: العمل على دعم الحلفاء الأوروبيين للمحافظة على حرية أوروبا وأمنها، واستعادتها لميراثها الحضاري وثقتها بذاتها. الرابع: العمل على منع القوى المنافسة والمعادية من الهيمنة على مصادر الطاقة، أو الممرات الإستراتيجية في الشرق الأوسط، مع تجنب الانغماس في حروب المنطقة الأبدية. والخامس: العمل على أن تقود الولايات المتحدة العالم في مجالات التقدم التقني، من التقنية البيولوجية إلى الذكاء الاصطناعي. فما الوسائل والأدوات المتوافرة لتحقيق هذه الأهداف؟

تقول الوثيقة: إن الولايات المتحدة تظل الدولة-الأمة الأهم والأقوى في العالم، وإنها تتمتع بمقومات تحسدها عليها الأمم الأخرى. من هذه المقومات، أن النظام السياسي الأميركي قادر دائمًا على تصحيح طريقه، وأن الاقتصاد الأميركي هو الأكبر في العالم، وأن النظام المالي الأميركي هو القائد للأسواق المالية العالمية. إلى جانب ذلك، تمتلك الولايات المتحدة قطاع تقنية رائدًا ومبدعًا، وشبكة واسعة من التحالفات عبر العالم. وتحتفظ بأقوى مؤسسة عسكرية في العالم وتتمتع بموقع جغرافي آمن، وثروات طبيعية متعددة، وتمتلك قوة ناعمة وتأثيرًا ثقافيًّا لا يمكن منافسته، إضافة إلى شجاعة الشعب الأميركي وإرادته وولائه لوطنه.

مهمة هذه الوثيقة الإستراتيجية، إذن، طرح الارتباط المنطقي والواقعي والمتماسك بين أهداف الولايات المتحدة في العالم والمقدرات الأميركية التي يمكن أن توظف لتحقيق تلك الأهداف.

إستراتيجية إدارة الرئيس ترامب

ينتقل واضعو الوثيقة، بعد تحديد الإطار النظري، إلى صلب الإستراتيجية. ويؤكدون على أن هذه الإستراتيجية تستند إلى جملة من المبادئ، التي تختص في جوهرها برؤية إدارة الرئيس ترامب للسياسة الخارجية.

أول هذه المبادئ أن الإستراتيجية لابد أن تتضمن تعريفًا محددًا لماهية المصالح القومية. فالتركيز على كافة المسائل والقضايا والمجالات ينتهي في الحقيقة إلى عدم التركيز على أي منها. ولذا، فالمسألة موضع الاهتمام الأبرز والأساس هي الأمن القومي الأميركي. وثاني هذه المبادئ هو إقامة السلم من موضع القوة. وثالثها هو الميل لعدم التدخل. ولما كان الالتزام الصلب بسياسة عدم التدخل في عالم اليوم غير ممكن، فلابد من تحديد شروط دقيقة لكل حالة من التدخل في شؤون الأمم ومناطق العالم الأخرى.

رابع هذه المبادئ يتصل بالواقعية المرنة، بمعنى تجنب محاولة فرض القيم الغربية، كالديمقراطية مثلًا، أو أي محاولات للتغيير الاجتماعي، على أمم تختلف مواريثها الثقافية والتاريخية عن الأمم الغربية. وخامس هذه المبادئ هو الإعلاء من شأن الأمة، لأن الوحدة السياسية الأساسية للنظام في العالم تظل الدولة القومية. لذلك، فإن إدارة ترامب ستقف دائمًا إلى جانب سيادة الدولة، وفي مواجهة كافة المنظمات العابرة للحدود، التي تقوض سيادة الدول القومية. وفي السياق نفسه، يأتي المبدأ السادس، الذي يؤكد على عمل إدارة ترامب على حماية سيادة الولايات المتحدة واحترام سيادة الدول الأخرى.

سابع هذه المبادئ هو توازن القوى العالمي، الذي يقتضي ألا تسمح الولايات المتحدة لأي قوة أخرى في العالم بالصعود إلى موقع الهيمنة، الذي يمكن أن يهدد الأمن القومي الأميركي. ثامن هذه المبادئ هو الوقوف إلى جانب العمال الأميركيين، وليس فقط الدفع نحو النمو الاقتصادي. والثامن هو الإنصاف، سواء في مجال التحالفات العسكرية أو العلاقات التجارية؛ ما يقتضي تقاسم الأعباء مع الحلفاء في تناسب مع الدخل القومي، وحماية السوق الأميركية من الممارسات التجارية المتوحشة. أما المبدأ التاسع، والأخير، فيتعلق بالكفاءة والاستحقاق، اللذين صنعا التفوق الأميركي، واللذين يقتضيان أن تكون أميركا أولًا، وعلى الدوام.

تنتقل الوثيقة بعد ذلك إلى تحديد الأولويات العامة لإستراتيجية إدارة ترامب على النحو التالي:

1. وضع نهاية لموجات الهجرة وإحكام السيطرة على الحدود الأميركية.

2. حماية الحقوق الأساسية والحريات، سواء في الولايات المتحدة أو أوروبا.

3. تقاسم الأعباء بين الولايات المتحدة وحلفائها، سيما بين أعضاء حلف الناتو.

4. إعادة بناء التحالفات عبر العالم بالعمل على إحلال السلام وحل النزاعات.

5. تحقيق الأمن الاقتصادي، عبر تعديل الميزان التجاري، وتأمين الوصول إلى المواد الضرورية الحرجة وتأمين خطوط الإمداد، وإعادة البناء الصناعي في الولايات المتحدة، وإعادة بناء القاعدة الصناعية العسكرية، وتحقيق السيطرة في مجال الطاقة، والمحافظة على القطاع المالي الأميركي وتنميته وضمان هيمنته على أسواق العالم.

بهذا، تصل الوثيقة إلى تحديد مناطق العالم الإستراتيجية، وتحديد طبيعة علاقات الولايات المتحدة مع كل منها، وما ستسعى إلى تحقيقه في هذه العلاقات. تقسِّم الوثيقة العالم إلى خمس دوائر: نصف الكرة الغربي، وآسيا، وأوروبا، والشرق الأوسط، وإفريقيا. وفي الكشف عن أهمية كل دائرة والأهداف التي تسعى إدارة ترامب إلى تحقيقها فيها، تطبق الوثيقة المفاهيم التي طرحتها في المقدمة، والمبادئ والأولويات التي حددتها من قبل. ويبدو واضحًا أن ترتيب الدوائر، من الأولى إلى الخامسة، وحجم ما سُجِّل للكشف عن سياسة إدارة ترامب تجاهها، يعكس أولوية كل منها وموقعها في إستراتيجية الإدارة.

- الدائرة الأولى: نصف الكرة الغربي (الأميركتان): تناولت الوثيقة هذه الدائرة بقدر من التفصيل يفوق تناول أي من الدوائر الأخرى، ولا تتحرج من التأكيد على الأهمية القصوى التي تُوليها إدارة ترامب لهذه المنطقة من العالم. وتقول الوثيقة بصراحة: إن واشنطن ترامب ستعمل على منع التواجد العسكري لأي قوة خارجية منافسة في نصف العالم الغربي. وستمنع القوى الخارجية من التحكم في أيٍّ من مقدرات المنطقة الإستراتيجية. وتقول: إن هذا الإعلان، الذي تصفه بملحق ترامب لمبدأ مونرو، ليس سوى منطق الأمور والنهج الصحيح لاستعادة دور أميركا وحماية أمنها القومي.

في هذا السياق، تقول الوثيقة: إن أهداف مقاربة واشنطن الإستراتيجية لنصف الكرة الغربي يمكن تلخيصها في التعاون مع الأصدقاء للتحكم في نشاطات تدفق المهاجرين، وإيقاف تهريب المخدرات، وتقوية الاستقرار والأمن في اليابسة والبحار. في الوقت نفسه، ستعمل واشنطن على كسب أصدقاء جدد، مع رفع مستوى جاذبية النموذج الأميركي بوصفه الخيار الأفضل لاقتصاد الشركاء وأمنهم. ولا تتردد الوثيقة في التأكيد على أن الولايات المتحدة ستقوم، لتحقيق هذه الأهداف، بتعزيز انتشار قواتها في نصف الكرة الغربي، وستعمل على دعم نشاطات الشركات الأميركية في المنطقة. والواضح أن تحركات إدارة ترامب الأخيرة تجاه فنزويلا وكوبا، والترحيب الاحتفالي في واشنطن بانتخاب رؤساء يمينيين في بعض الدول الأميركية اللاتينية، إلى جانب استخدام سلاح الجمارك على البضائع القادمة من دول مثل كندا والمكسيك والبرازيل، ليست سوى تطبيق فعلي لما تفصِّله الوثيقة من مقاربة إستراتيجية لنصف الكرة الغربي.

- الدائرة الثانية: آسيا، التي تعني هنا شرق آسيا وما تصفه الوثيقة بالمجال الهندي-الباسيفيكي. وتبدأ الوثيقة مقاربة الشرق الآسيوي بشرح أهمية دوله وثقلها في الاقتصاد العالمي، وتؤكد على أن إدارة ترامب ستعمل على أن تقود في هذه المنطقة من موقع القوة. وتقول: إن الإدارات الأميركية السابقة غضَّت النظر عن الصعود الاقتصادي الصيني الحثيث، وعن توسع الصين الإستراتيجي. لذا، فإن إدارة ترامب ستقوم بمعالجة الخلل في التوازن الاقتصادي العالمي، والمحافظة على حرية الحركة والنقل في المجال الهندي-الباسيفيكي. وستتبنَّى الولايات المتحدة إجراءات ردع إستراتيجي لمنع اندلاع الحرب في شرق آسيا (المقصود هنا بالتأكيد منع استيلاء الصين على تايوان)، والتعاون مع شركائها الرئيسيين في المنطقة (مثل اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية والهند) لمواجهة السياسات الاقتصادية الهجومية (الصينية)، والمشاركة في حمل أعباء الأمن والدفاع في المنطقة.

- الدائرة الثالثة: أوروبا: المدهش في هذا الجزء، الذي لا يخلو من التهجم على هذه القارة وانتقاد سياسات دولها، أنه يبدأ بعنوان "دعم العظمة الأوروبية". بمعنى أن سياسة إدارة ترامب تجاه أوروبا، الحليف الرئيس للولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، تحمل في جوهرها العمل على أن تستعيد أوروبا ميراثها التاريخي العظيم. وتتضمن هذه السياسة دفع القادة الأوروبيين للمشاركة بصورة أكبر في أعباء الدفاع عن قارتهم، وتشجيعهم على زيادة نصيب دولهم من الدخل القومي العالمي، الذي تراجع بصورة ملموسة (لصالح الصين، بالتأكيد) في ربع القرن الأخير.

تدعو الوثيقة إلى تسوية للحرب في أوكرانيا، وإلى أن تخفف أوروبا من موقفها العدائي تجاه روسيا، وأن تتوقف عن الدفع بتوسع نطاق حلف الناتو. كما تدعو أوروبا إلى معالجة تدفق المهاجرين غير الأوروبيين إلى القارة. وبينما تؤكد على الأهمية الحيوية لعلاقة أميركا بأوروبا، ثقافيًّا وإستراتيجيًّا، لا تتردد في مطالبة الشركاء الأوروبيين بتعود الاعتماد على الذات، من جهة، وفتح الأسواق الأوروبية للمنتجات الأميركية، من جهة أخرى. الواضح أن الوثيقة لا تفرِّق في الحديث عن أوروبا بين بريطانيا، التي كان يقال دائمًا إنها تتمتع بعلاقة خاصة مع الولايات المتحدة، وباقي دول القارة، بل تتناول أوروبا ككل.

- الدائرة الرابعة: الشرق الأوسط: هنا، وكما وضعت الوثيقة مقاربتها لأوروبا في إطار السعي إلى السلم ومشاركة أعباء الأمن والاستقرار، تقول بوضوح: إن هدف واشنطن في الشرق الأوسط هو "تحول العبء وبناء السلم". توحي الوثيقة بأن الشرق الأوسط لم يعد يحتل موقع الأولوية التي احتلها في مقاربات الإدارات السابقة طوال نصف القرن الماضي. فلا أهمية الشرق الأوسط مصدرًا رئيسًا للطاقة هي اليوم كما كانت عليه، ولا تدافُع القوى الكبرى على الشرق الأوسط هو اليوم مصدر قلق لواشنطن. ولكن الصراع الداخلي في الشرق الأوسط لا يزال مستمرًًا. لهذا، فإن واشنطن ترامب ستعمل على منع أية قوة شرق أوسطية (مثل إيران) من الهيمنة. وستقوم بتأمين ممرات التجارة والنقل الإستراتيجية بالتعاون مع الشركاء الكبار في المنطقة. وستمنع مصادر الطاقة من الوقوع تحت سيطرة أية قوة منافسة. وتشير الوثيقة بجملة قصيرة لإسرائيل، بالتأكيد على أن بقاء إسرائيل آمنة يمثل أحد أهداف الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.

وتقول الوثيقة: إن إدارة ترامب ستواجه المهددات لمصالحها الإستراتيجية في الشرق الأوسط أيديولوجيًّا وعسكريًّا عند الحاجة، بما في ذلك محاولة توسيع نطاق الاتفاقات الإبراهيمية، دون اللجوء إلى سياسات وحروب "بناء الأمم" التي تبنَّتها الإدارات السابقة.

- الدائرة الخامسة: إفريقيا، التي تطرح الوثيقة رؤيتها لها فيما لا يزيد عن نصف صفحة فقط، كاشفة عن تراجع الاهتمام الأميركي بشؤون القارة. هنا، وفي إلحاق لا يخفى للسياسة تجاه الشرق الأوسط، تقول الوثيقة: إن سياسات الإدارة السابقة تجاه القارة، التي استندت إلى الأيديولوجية الليبرالية لم تكن ذات فائدة ولا يمكن أن تستمر. والبديل هو البحث عن شراكات في دول مختارة، والعمل على تخفيف حدة الصراعات والحروب، وتبنِّي علاقات تجارية ذات منفعة مشتركة. على الولايات المتحدة، تقول الوثيقة، أن تراقب بحذر نشاطات "الإرهاب الإسلامي" في بعض مناطق إفريقيا، دون أن تتورط في التزامات طويلة المدى. وأن تنتقل بعلاقاتها مع دول القارة من سياسة المساعدات إلى علاقات التجارة والاستثمار، سيما في حقول الطاقة النووية، والغاز المسال، والمعادن النادرة.

كيف يمكن أن تقرأ وثيقة إدارة ترامب الإستراتيجية

يمكن تلخيص إستراتيجية إدارة الرئيس ترامب في عدد من التوجهات الأساسية:

1. إن واشنطن ستقيم سياساتها في العالم على أساس فرض مشاركة الأعباء على الحلفاء والأصدقاء، بما يعني أن الولايات المتحدة لن تستمر في تحمل تكاليف دورها المهيمن على الساحة الدولية وحدها، وأنها تتوقع من الدول الحليفة في أوروبا، سيما دول حلف الناتو، والدول الصديقة والحليفة في أنحاء العالم الأخرى، أن تشارك في تحمل أعباء أمن مناطقها، سواء ماليًّا أو عسكريًّا. لا تطرح الوثيقة تخلي الولايات المتحدة عن دورها المهيمن دوليًّا، ولا تفوقها كقوة عظمى، ولكنها تعكس رؤية نرجسية فائقة لموقع أميركا في العالم، تستبطن الافتراض بأنه طالما اعتقد الحلفاء والأصدقاء بأن دور أميركا لا يمكن الاستغناء عنه، فلابد أن يشاركوا تكاليف الحفاظ على هذا الدور. لذلك، ليس ثمة ما يشير في الوثيقة إلى أن إدارة ترامب ستتخلى عن عشرات القواعد العسكرية الأميركية في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط ومناطق العالم الأخرى، أو ستنسحب منها. ولكنها تقول: إن على الحلفاء المشاركة في مهمة هذا الانتشار العسكري وتحمل تكاليفه. أما قائمة الحلفاء والشركاء، الذين تذكرهم الوثيقة أحيانًا، أو تشير إليهم تصريحات الرئيس ترامب وأركان إدارته في أحيان أخرى، فتضم في أوروبا، بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبولندا. وفي الشرق الأوسط، إسرائيل وتركيا والسعودية. وفي آسيا، اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية والهند. 

2. لكن هذا التقليص النسبي للدور الأميركي لا ينطبق على أميركا اللاتينية؛ حيث ستعود واشنطن إلى تبني سياسة الهيمنة المتفردة، تمامًا كما نَصَّ عليها مبدأ مونرو في أوائل القرن التاسع عشر، وتحمل تكاليف الهيمنة مهما بلغ ثقلها. وهذا ما بدأت أميركا اللاتينية رؤيته بالفعل؛ حيث قامت إدارة ترامب بتعزيز متصاعد للانتشار العسكري، وأعلنت حصارًا محكمًا على صادرات النفط الفنزويلي يهدف إلى تقويض اقتصاد فنزويلا وكوبا معًا (نظرًا لأن الأولى تمد الثانية بالنفط بأسعار تفضيلية)، وتدعو إلى تغيير نظام الحكم في كلتا الدولتين.  

3. ستعمل الولايات المتحدة، في الوقت الذي ستحاول فيه تجنب إشعال الحروب، على استعادة دورها كأكبر قوة اقتصادية وصناعية وتقنية في العالم، وستعدِّل ميزانها التجاري مع دول العالم الأخرى، الحليفة منها والمنافسة. والمقصود هنا بصورة أساسية النهوض بالقوة الأميركية في مواجهة الصين وأوروبا الغربية، اللتين تمثلان المنافسين الرئيسين للولايات المتحدة في مجالات الاقتصاد والتقنية والصناعة. وقد سارعت إدارة ترامب بالفعل إلى تبني هذا التوجه منذ تسلمت مقاليد البيت الأبيض، حين أصدر الرئيس سلسلة من قرارات رفع الرسوم الجمركية على الواردات من كافة أنحاء العالم، سيما الواردات الصينية والأوروبية، في تخلٍّ سافر عن سياسة التجارة الحرة. وتعتقد إدارة ترامب أن هذه الإجراءات ستدفع إلى إعادة توطين الصناعات في الولايات المتحدة، وتحدُّ من حجم الواردات إلى السوق الأميركية.

لكن الخطط الإستراتيجية التي تضعها الدول، حتى الكبرى منها، كما هي خطط الحروب التي يرسمها الجنرالات على الورق، يصعب المحافظة عليها والالتزام بشروطها طويلًا. وعندما يتعلق الطموح الإستراتيجي بالعالم ككل، تصبح الأمور أكثر تعقيدًا، وأكثر عرضة للمفاجآت أو التطورات التي لم تؤخذ في الحسبان.

تفترض إستراتيجية ترامب، على سبيل المثال، أن لا حاجة لمواجهة عسكرية مع الصين، وأن الصعود الصيني يمكن احتواؤه بطريقتين متضافرتين: الأولى: حلقة من التحالفات الدفاعية في الشرق الآسيوي، تحيط ببحر الصين والباسيفيك. والثانية: سلسة من الإجراءات والقيود التجارية، ودفع الحلفاء الأوروبيين لتبني إجراءات مماثلة. ولكن، ماذا لو أن الصين أقدمت خلال عامين أو ثلاثة على محاولة ضم تايوان بقوة السلاح، هل يمكن الاعتماد على شركاء الولايات المتحدة الآسيويين في المواجهة مع الصين؟ وهل ستتحرك الولايات المتحدة عسكريًّا لحماية تايوان، وتتجاهل وعودها بتجنب إشعال الحروب وتجنب الانخراط في الأزمات؟

أما في أوروبا، فيبدو أن إستراتيجية ترامب تستند إلى فرضية تقول بأن روسيا لم تعد تشكل تهديدًا إستراتيجيًّا للغرب، لأن حرب أوكرانيا أظهرت ضعف القوة العسكرية الروسية التقليدية، وأن موسكو تدرك أن الخيار النووي لم يعد مطروحًا لتحقيق أهداف عدوانية. وهذا هو السبب الرئيس خلف تحرك واشنطن لإنهاء الحرب في أوكرانيا، حتى لو استدعى الأمر تقديم تنازلات محدودة لروسيا. وتأمل واشنطن أن هذه المقاربة ستدفع روسيا بعيدًا عن الصين، وتقرِّبها من الغرب الأطلسي. ولكن ماذا لو كانت روسيا بوتين أكثر قومية مما يظن ترامب، وأن موسكو لن تقوم بالتخلي عن علاقاتها الوثيقة مع الصين مهما كانت المغريات، وستظل تحاول توسيع نطاق نفوذها في شرق أوروبا مهما كانت العقبات والمغريات؟

تكشف الإستراتيجية، بالرغم من دعوتها إلى الاتساق المنطقي والواقعي في السياسة الخارجية، عن تناقضات ملموسة في مقاربات إدارة ترامب لعدد من الأزمات. تؤكد الوثيقة، مثلًا، أن الدولة القومية هي الوحدة الأساسية للنظام الدولي وأن سيادة الدولة لابد أن تُحترم. ولكن، عندما أعلنت إسرائيل اعترافها بدولة أرض الصومال، التي ليست سوى انشقاق عن جمهورية الصومال، لم يعرب الرئيس ترامب عن أية معارضة للخطوة الإسرائيلية، ولم يَعِدْ سوى بأن واشنطن لن تقدم على خطوة مماثلة في الوقت الحاضر.

بصورة مشابهة، وبينما تؤكد الوثيقة أن إدارة ترامب لن تعمل على تغيير الأنظمة لأسباب أيديولوجية، وأن زمن تعهد مشاريع "إعادة بناء الأمم" بدوافع ليبرالية قد انتهى، تسعى واشنطن في أميركا اللاتينية إلى إطاحة أنظمة الحكم في فنزويلا وكوبا، وتلقي بكل ثقلها خلف مرشحي اليمين في دول أخرى، لهذه الأسباب الأيديولوجية ذاتها.

بيد أن ثمة محددات أخرى لإستراتيجية واشنطن ترامب لابد أن توضع دائمًا في الحسبان. فبالنظر إلى أن إدارة ترامب تبدو كأنها لا تعبِّر بالضرورة عن رؤية مؤسسات الحكم الرئيسة، فليس من الواضح ما إن كانت الإستراتيجية المطروحة تمثل إجماع الدولة الأميركية بالفعل. في 18 ديسمبر/كانون الأول 2025، وقَّع الرئيس ترامب على قانون الدفاع الأميركي للعام المقبل، 2026، الذي كان قد مُرِّر في مجلسي الكونغرس. وإلى جانب أن القانون يطرح أكبر ميزانية دفاعية أميركية على الإطلاق (901 مليار دولار)، فقد نَصَّ على حظر تقليص الوجود العسكري الأميركي في أوروبا وكوريا الجنوبية دون التشاور مع الحلفاء، وعلى تخصيص 800 مليون دولار لمساعدات عسكرية لأوكرانيا في العامين المقبلين. كلا البندين لا ينسجمان بالضرورة مع التوجه العام لإستراتيجية الرئيس.

وإذا لم تكن إستراتيجية إدارة ترامب تمثل إجماع الدولة الأميركية بالفعل، فأي مصير ينتظر التحولات التي توحي بها في سياسة أميركا الخارجية عندما تنتهي ولاية الرئيس ترامب بعد ثلاث سنوات؟ هل ستواصل الإدارة المقبلة اتباع السياسات ذاتها، أم ستنظر إليها بوصفها فاصلة غريبة عن تقاليد السياسة الخارجية الأميركية؟

ABOUT THE AUTHOR