المشهد السياسي في اليمن وسياق المواجهات المسلحة

يدعو الكاتب إلى دولة يمنية مرتكزها الحداثة السياسية والوطنية التي تتعالى على القبلية لتحقق المواطنة المتساوية. حيث يبقى تعميق الاندماج الوطني وتسوية التناقضات الاجتماعية المخرج لحالة الصراع المسلح الذي يكلف اليمن ثمنا باهضا.
31 August 2009
1_936452_1_34.jpg







فؤاد الصلاحي


بدأت الحرب بين الحكومة اليمنية والحوثييين الذين ظهروا أواسط الثمانينات كحركة فكرية، حربا عبثية لا تخدم سوى أصحاب المشروعات الخاصة. وبدخولها دورتها السادسة تبدو الحكومة غير قادرة على حسم الأمر لصالحها.


وتصنف الحركة أنها شيعية اثناعشرية، وهو ما ينفيه الحوثيون. ومن بين مطالبها الاعتراف بها حزبا سياسيا وضمان حق التعليم لأبناء المذهب الزيدي والاعتراف به مذهبا رسميا إلى جانب المذهب الشافعي. أما الحكومة فتتهمها بأنها جماعة مخربة مدعومة من إيران، في حين يستخدم الجيش الحكومي سياسة الأرض المحروقة وتدمير البنى التحية.


ويخشى أن تأخذ الحرب ضد الحوثيين صبغة دولية في ظل الاصطفاف اليمني مع أمريكا وفي ظل التوجس السعودي من أن تكون إيران داعمة للحوثيين، فضلا عن أن الحكومة ما فتئت تردد أن الحوثيين أتباع حزب الله وإيران، وأن إيران وليبيا تمولانهم.


إلى جانب الحرب المشتعلة مع الحوثيين في الشمال فإن الأوضاع في الجنوب غير مطمئنة. فمنذ حرب الوحدة عام 1994 والجنوبيون يشعرون بالقهر السياسي والتهميش، ويطالبون بتحسين أوضاعهم المعيشية. وما فتئت أعداد الأفراد المنخرطين في الاحتجاجات المطلبية في ازدياد. وازداد الأمر سوءا في ضوء فقدان الحكومة اليمنية لرؤية سياسية ناضجة تقوم على المواطنة والمساواة، ولجوئها إلى الإفراط في القمع. لكن تبقى الاحتجاجات في الجنوب ذات منشأ داخلي وهي تعبير عن أزمة النظام في تعاملاته السيئة مع مواطنيه.


واليمن بحاجة اليوم لحل مشكلتي الحوثيين والجنوب إلى دولة مدنية بلوازمها الدستورية والقانونية التي تضمن حرية المواطنين وتخلق علاقة انتماء وفق مبدأ المواطنة، فهي وحدها الكفيلة بتعميق الاندماج الاجتماعي والوطني والشعور بالهوية المشتركة.


من هم الحوثيون؟        
غموض الأسباب والمبررات والنتائج

مجالات حسم المعركة
تدويل الحرب مع الحوثيين
الحراك الجنوبي





مشهد الحرب المدمرة والأرض المحروقة يضاعف من التكلفة الاقتصادية للحرب ولما بعد الحرب، خاصة الأبعاد الاجتماعية والبشرية وما ستولده الحرب من شرخ عميق في نفوس وثقافة أبناء محافظة صعدة وخصوصا المتضررين من الحرب بشكل مباشر

من الثابت أن اليمن يعيش أزمة بنيوية شاملة أصابت الدولة والمجتمع بل وجعلت من الدولة ذات مصير مشكوك في استمرارية وجوده أصلا، إذ إن اليمن وفق توصيفات معهد كارنيجي يتجه إلى الانهيار بعد فشله في أداء دوره الإنمائي والوظيفي حتى بالأسلوب التقليدي.


وتأسيسا على ذلك يشهد اليمن حالة من الاضطراب السياسي والأمني بالغ الخطورة، ففي الشمال حرب بين الحكومة والحوثيين (المتمردين الحوثيين بلغة الحكومة) تستخدم في هذه الحرب جميع الأسلحة خاصة من الجانب الحكومي، وهذه الحرب من أول وهلة يمكن الجزم بأنها حرب عبثية لا تخدم اليمن مجتمعا وحكومة، بل تخدم أصحاب مشروعات خاصة ذات طبيعة طائفية من جانب، وتجار الحروب من جانب آخر. خاصة إذا ما علمنا أن هذه الحرب هي في دورتها السادسة وليست الأولى من نوعها.


ومعنى ذلك أن الدولة في اليمن غير قادرة –ولم تستطع-خلال خمس سنوات سابقة وخمس دورات من المعارك أن تحسم الأمر لصالحها ولم تستطع أن تخلق تحالفا مجتمعيا مناهضا للحوثيين يقطع الطريق عليهم من خلال غياب الغطاء الشعبي وتضييق الخناق عليهم لتقليل الأنصار والمؤيدين والمحازبين، لكن الأمر الواقع يعكس غير ذلك فالحوثيون تتزايد أعدادهم وتتزايد مصادر تمويلهم وتسليحهم وهو الأمر الذي يضع تساؤلات هامة يجب الإجابة عنها. كيف تشكلت الجماعة الحوثية سياسيا وعسكريا؟ ما مصادر سندها محليا وخارجيا؟ أين دور الأجهزة الأمنية والاستخبارات طوال السنوات الماضية؟


لا شك أن مشهد الحرب المدمرة والأرض المحروقة يضاعف من التكلفة الاقتصادية للحرب ولما بعد الحرب خاصة الأبعاد الاجتماعية والبشرية وما ستولده الحرب من شرخ عميق في نفوس وثقافة أبناء محافظة صعدة وخصوصا المتضررين من الحرب بشكل مباشر.


وفي دولة تقول إنها فقيرة في الموارد يتساءل البعض عن تمويل الحرب وكلفتها الاقتصادية وكيف يتأتى للدولة تدبير الموارد اللازمة للحرب، في حين تعلن عجزها عن توفير الموارد اللازمة لشراء القمح والعلاج والتعليم والضمان الاجتماعي. إن الحرب بدورتها السادسة بين الحكومة والمتمردين الحوثيين تضع تساؤلات هامة عن دور الدولة ووظيفتها في المجتمع اليمني وعن مدى مشروعية الحرب وفق نصوص الدستور والقانون إضافة إلى المشروعية الشعبية.


وللعلم فإن البدايات الأولى لجماعة الحوثي تم دعمها من قبل الحكومة والحزب الحاكم في إطار التكتيكات السياسية الآنية لمقتضيات اللعبة السياسية، وهذه المسألة أضرت باليمن على المستويين الآني والبعيد، من خلال دور الدولة عبر أجهزتها السياسية والأمنية في تمويل ودعم الجماعات السلفية والزيدية المتطرفة كل ضد الآخر.


من هم الحوثيون؟ 





ينفي الحوثيون انقلابهم على المذهب الزيدي رغم إقرارهم بالالتقاء مع الاثني عشرية في بعض المسائل كالاحتفال بعيد الغدير وذكرى عاشوراء، ترى الجماعة أن الوضع الذي تعيشه يتسم بخنق الحريات وتهديد العقيدة الدينية، وتهميش مثقفي الطائفة الزيدية

يشكل الحوثيون حركة فكرية أصبحت سياسية وعسكرية مع بداية الحرب مع الحكومة اليمنية، مركزها الرئيس محافظة صعدة شمال اليمن، وهي تنسب إلى بدر الدين الحوثي وتعرف بالحوثيين أو جماعة الحوثي أو الشباب المؤمن. ورغم ظهور الحركة فعليا عام 2004 إثر الجولة الأولى من الحرب مع الحكومة، فإن بعض المصادر تعيد جذورها في الواقع إلى ثمانينيات القرن الماضي.


ففي عام 1986 تم إنشاء "اتحاد الشباب" لتدريس شباب الطائفة الزيدية على يد صلاح أحمد فليتة, وكان من ضمن مدرسيه مجد الدين المؤيدي وبدر الدين الحوثي. وإثر الوحدة اليمنية التي قامت في مايو/ أيار 1990 وفتح المجال أمام التعددية الحزبية، تحول الاتحاد من الأنشطة التربوية إلى مشروع سياسي من خلال حزب الحق الذي يمثل الطائفة الزيدية. وفي عام 1992 تم تأسيس منتدى الشباب المؤمن على يد محمد بدر الدين الحوثي وبعض رفاقه كمنتدى للأنشطة الثقافية، ثم حدثت به انشقاقات فيما بعد.


وفي عام 1997 تحول المنتدى على يد حسين بدر الدين الحوثي من الطابع الثقافي إلى حركة سياسية تحمل اسم "تنظيم الشباب المؤمن". وقد غادر كل من فليتة والمؤيدي التنظيم واتهماه بمخالفة المذهب الزيدي. وقد اتخذ المنتدى منذ 2002 شعار "الله أكبر.. الموت لأميركا.. الموت لإسرائيل.. اللعنة على اليهود.. النصر للإسلام" الذي يردده عقب كل صلاة.


وتشير بعض المصادر إلى أن منع السلطات أتباع الحركة من ترديد شعارهم بالمساجد كان أحد أهم أسباب اندلاع المواجهات بين الجماعة والحكومة اليمنية. وقد تولى قيادة الحركة خلال المواجهة الأولى مع القوات اليمنية في 2004 حسين الحوثي الذي كان نائبا في البرلمان اليمني في انتخابات 1993 و1997 والذي قتل في نفس السنة فتولى والده الشيخ بدر الدين الحوثي قيادة الحركة. ثم تولى القيادة عبد الملك الحوثي الابن الأصغر لبدر الدين الحوثي بينما طلب الشقيق الآخر يحيى الحوثي اللجوء السياسي في ألمانيا.


تصنف بعض المصادر الحركة بأنها شيعية اثني عشرية، وهو ما ينفيه الحوثيون الذين يؤكدون أنهم لم ينقلبوا على المذهب الزيدي رغم إقرارهم بالالتقاء مع الاثني عشرية في بعض المسائل كالاحتفال بعيد الغدير وذكرى عاشوراء.. ترى جماعة الحوثيين أن الوضع الذي تعيشه يتسم بخنق الحريات وتهديد العقيدة الدينية، وتهميش مثقفي الطائفة الزيدية.


وهذه الجماعة تطالب بموافقة رسمية على صدور حزب سياسي مدني وإنشاء جامعة معتمدة في شتى المجالات المعرفية، وضمان حق أبناء المذهب الزيدي في تعلم المذهب في الكليات الشرعية, واعتماد المذهب الزيدي مذهبا رئيسيا بالبلاد إلى جانب المذهب الشافعي. غير أن السلطات اليمنية تؤكد أن الحوثيين يسعون لإقامة حكم رجال الدين، وإعادة الإمامة الزيدية.


وخاضت جماعة الحوثيين عدة مواجهات مع الحكومة اليمنية منذ اندلاع الأزمة عام 2004 فقد اندلعت المواجهة الأولى في 19 يونيو/ حزيران 2004 وانتهت بمقتل زعيم التمرد حسين بدر الدين الحوثي في 8 سبتمبر/ أيلول 2004 حسب إعلان الحكومة اليمنية. أما المواجهة الثانية فقد انطلقت في 19 مارس/ آذار 2005 بقيادة بدر الدين الحوثي (والد حسين الحوثي) واستمرت نحو ثلاثة أسابيع بعد تدخل القوات اليمنية. وفي نهاية عام 2005 اندلعت المواجهات مجددا بين جماعة الحوثيين والحكومة اليمنية.


غموض الأسباب والمبررات والنتائج 





غالبية الشارع اليمني ترفض أي دعوة سلالية أو عنصرية، خاصة التي تدعو إلى إعادة الإمامة، وهنا لا يصدّق الشارع اليمني تبريرات الحكومة والحوثيين على السواء في استمرار الحرب ولكنه يقف داعيا إلى إنهاء الحرب، ومحذرا من خطورة عواقبها الاجتماعية والإنسانية

لم يتضح بعد لدى غالبية اليمنيين الأسباب الحقيقية لنشوب الحرب بجولاتها الست بين الدولة والحوثيين حتى المراقبين والمهتمين – ونحن منهم- فهناك مجموعة من الأكاذيب أو لنقل من التضليلات نسجت حول الحوثيين من قبل الحكومة من قبيل القول بأنهم مخربون، وأنهم تحولوا إلى المذهب الاثناعشري الجعفري مدعومين من إيران، وأنهم يريدون إعادة الإمامة كنظام حكم.


ومما ساعد في تقبل بعض هذه المبررات أنه من حيث الممارسة وجدت بعض الكتابات للحوثي الابن المتوفى في المعركة الأولى تشيد بالتجربة الإيرانية، وأن بعض مقابلاتهم الصحفية تضمنت إشارات إلى أهمية انتسابهم لآل البيت وأحقيتهم في السلطة، وهذه الأخيرة تجعل من الحرب برمتها معركة فاصلة بين طرفين، كل منهم يدعي أحقيته في الحكم والسلطة دون الاهتمام بالمتغيرات السائدة في اليمن والتي أعقبت التحول إلى نظام جمهوري عام 62 في الشمال و63 في الجنوب، ونظام ديمقراطي بعد إعلان الوحدة عام 90.


الجدير بالذكر أن النشأة الأولى لجماعة الحوثي كانت جماعة فكرية دينية تحولت إلى الاهتمام بالشأن السياسي تدريجيا خاصة مع ارتباط مؤسسيها في حزب الحق عندما أعلن تأسيسه برئاسة أحمد الشامي ثم في إطار الصراعات السياسية التي أعقبت دولة الوحدة تم دعم حزب الحق من الحزب الاشتراكي ضدا على المؤتمر وحزب الإصلاح (أكبر الأحزاب الدينية "يشمل مجموعات الإخوان المسلمين والجماعات الوهابية وممثلي التجار والقبائل").


ثم ما لبث أن عمل الرئيس على دعم مجموعة حسين الحوثي بدءا بانشقاقها من حزب الحق، ثم دعمهم في النشاط العملي ثقافيا وسياسيا ضدا على الجماعات الإخوانية التي يعبر عنها حزب الإصلاح.


وللعلم فإن غالبية الشارع اليمني ترفض أي دعوة سلالية أو عنصرية، خاصة التي تدعو إلى إعادة الإمامة، وهنا لا يصدّق الشارع اليمني تبريرات الحكومة والحوثيين على السواء في استمرار الحرب ولكنه يقف داعيا إلى إنهاء الحرب ومحذرا من خطورة عواقبها الاجتماعية والإنسانية كما تجلى ذلك بدعوة أحزاب اللقاء المشترك والكثير من نشطاء المجتمع المدني أفرادا ومثقفين وجمعيات.


مجالات حسم المعركة 


مما لا شك فيه أن الرئيس علي عبد الله صالح يأخذ قوته استنادا إلى المؤسسة العسكرية التابعة له والموالية له أيضا، فقد تم إعادة بناء أهم الوحدات العسكرية بطريقة تجعل منها تحت أمرته المباشرة وقد تضخم الاهتمام بها من حيث المعدات والأجهزة الحديثة والتدريب وفق خبرات أجنبية إضافة إلى تزايد أعداها.


إضافة إلى ذلك فهناك شرعية -حتى لو كانت شكلية – دستورية من حيث إنه رئيس منتخب تسانده بعض الأحزاب والتحالفات القبلية التي يعيد بناءها باستمرار من خلال المكاسب المادية التي يحصل عليها المتحالفون معه من المشايخ والوجاهات القبلية.


الجدير بالذكر أنه لو تم استكمال بناء الدولة مؤسسيا وقانونيا وإبراز فاعليتها الإنمائية والوظيفية داخل المجتمع واحترام منظومة الحقوق والحريات العامة، فإن جهاز الدولة سيكون مدعوما بقوة من كل الشرائح والفئات الاجتماعية في عموم الوطن، وسيكون قادرا على دحر أي جماعة متمردة أو تحاول العبث باستقرار الوطن. إلا أن الراهن حاليا كما يرى الكثير من المراقبين أن نظام حكم الرئيس صالح لا يحظى بمشروعية شعبية، حيث تنظر الكثير من القبائل والمجموعات السياسية والاحتجاجية على أن النظام يخدم فئة محدودة وتتعاظم منافعها وفق احتكارها للسلطة والثروة.


صفوة القول، إن الرئيس صالح عليه إعادة بناء تحالفاته السياسية من خلال إجراء حوارات صادقة لبناء الدولة مع مختلف التنظيمات الحزبية والقبلية ونشطاء المجتمع المدني (أفرادا ومنظمات) والمثقفين والأكاديميين وممثلي النقابات، الأمر الذي يمكنه من تجديد صورة الدولة لدى المواطن ومن ثم إعادة الاعتبار لمشروعية الدولة ونظامها السياسي في هذه الحالة فقط يستطيع كسب المعركة مع الحوثيين بأقل الخسائر الممكنة.


ومن جانب آخر يستطيع كسب المعركة وفق قوانين اللعبة الأمريكية من خلال اتباع سياسة الأرض المحروقة والتدمير اللامحدود للبني التحية وقتل آلاف الأفراد، لكنه سينجم عنه ثارات واضطرابات لا نهاية لها سوءا على أساس قبلي أو طائفي أو مذهبي، وسينفتح الداخل اليمني للخارج إقليميا ودوليا أكثر مما هو الآن.


تدويل الحرب مع الحوثيين 





إذا تدخلت السعودية مع الحكومة اليمنية في الحرب ضد الحوثيين سيكون القضاء عليها أمرا سريعا، خاصة إذا تضخم تخوف السعودية من تزايد القدرات العسكرية للحوثيين، وإذا تأكد دعم إيران لهم وتبنيهم الخط المذهبي الإيراني

إن أمريكا حتى اليوم لم تدرج جماعة الحوثي ضمن المجموعات الإرهابية رغم سعي الحكومة اليمنية إلى ذلك، فالاصطفاف اليمني مع الأمريكان في مكافحة الإرهاب من شأنه تقديم الكثير من المساندة العسكرية لليمن، وهو الأمر الذي يعني استدامة فاعلية القوات العسكرية اليمنية. من جانب آخر، إذا تدخلت السعودية مع الحكومة اليمنية في الحرب ضد الحوثيين سيكون القضاء عليها أمرا سريعا خاصة إذا تضخم تخوف السعودية من تزايد القدرات العسكرية للحوثيين، وإذا تأكد دعم إيران لهم وتبنيهم الخط المذهبي الإيراني.


ومن المعلوم أن الحرب بين الدولة والحوثيين منذ أيامها الأولى تم تدويلها من خلال اتهامات الحكومة اليمنية للحوثيين بأنهم أتباع حزب الله وأتباع إيران، ثم إنهم يتلقون تمويلا من هذه الدولة أو تلك (الإشارة إلى ليبيا وإيران).


وهكذا أظهرت الحرب مع الحوثيين تزايد فاعلية الدور الإقليمي والدولي ولكن دون رغبة أي منهم جميعا في حسم الموقف وكأنهم يريدون من اليمن أن يبقى ساحة للمعارك الإقليمية، أو أنهم يريدون –وفق المنظور الأمريكي- أن يبقى اليمن مجالا للتجريب العسكري لمخطط قادم يستهدف الخليج والجزيرة العربية، مع الإشارة إلى أن السعودية لا ترغب بدولة قوية في حدودها الجنوبية ومن ثم تعمل بشكل غير مباشر أحيانا وبشكل مباشر أحيانا أخرى على إضعاف الدولة في اليمن.


الحراك الجنوبي 


لم يحظ الحراك الجنوبي بدراسة فاحصة ومتتبعة له منذ نشأته وسبر أغواره من خلال فحص تحليلي لطبيعة الشعور الفردي والجمعي ولدى أبناء المحافظات الجنوبية إزاء الممارسات السياسية والأمنية والإدارية التي أعقبت حرب 94. فهذه الحرب خلقت شروخا عميقة في الشخصية الجنوبية فتشكل لدى الجنوبي وعي بالقهر السياسي تغذى هذا الوعي من جملة الممارسات الخاطئة سياسيا وإداريا وأمنيا.


ومن ثم فإن تسريح آلاف من الجنود وأفراد الأمن وتحويلهم إلى التقاعد كعمل يزهو به المنتصر شكل ذروة الاحتقار والإقصاء للجنوبيين من إمكانية مشاركتهم العمل في مختلف المؤسسات العمومية وخاصة مؤسستي الجيش والأمن. وهنا ظهرت البدايات الأولى للحراك الجنوبي من خلال مطالبات لتحسين أوضاع معيشية واحتجاجات نقابية ومطلبية ذات أساس اجتماعي ووفق مشروعية دستورية، فكان الرد من خلال القمع والاعتقالات والقتل.


وتم إعادة إنتاج عمليات سياسية ونضالية كانت تشهدها عدن قبل الاستقلال في صراعها مع الاستعمار البريطاني، ووفقا لذلك تزايدت أعداد الأفراد المنخرطين في الاحتجاجات المطلبية، وبتزايد القمع الموجه نحوها تم الربط بين المطالب المعيشية والمطالب السياسية، وهنا تم توجيه النقد إلى النظام الحاكم ورئيس الدولة والحكومة بأنهم جميعا إنما يمثلون محتكرين للسلطة والثروة وفق مسار قبلي وطائفي وأسري، وتم نقل الحراك من طابعه العفوي التلقائي إلى طابع شبه منظم (ولا يزال كذلك حتى اليوم) حيث تم استدعاء الرموز التاريخية في الجنوب مثل عبد الفتاح إسماعيل وعلى سالم البيض وعلى ناصر وغيرهم ليشكلوا واجهة سياسية وقيادية مقابل الوجهة الحاكمة في الداخل اليمني.


والأساس في الحراك الجنوبي أنه قام استنادا على مبدأ دستوري ينادي بالمواطنة المتساوية وتفعيل دولة القانون ورفع الغبن الواقع على أبناء المحافظات الجنوبية وخاصة عدن عاصمة إقليم الجنوب. ولما كان النظام اليمني ما زال لا يمتلك رؤية سياسية ناضجة تتمثل دستور الدولة ومبدأ المواطنية المتساوية فإنه قد لجأ إلى الإفراط في استخدام جهازه القمعي تجاه كل من يرفع رأسه أو يعبر بكلمة عن نقد تجاه السلطة ورموزها.





لا مستقبل في اليمن لحركة سياسية ذات إطار مذهبي أو طائفي، ذلك أن الجميع من قبائل الشمال وخاصة حاشد، وكذا الرئيس صالح يعرفون أنه إذا تم البناء السياسي للدولة وتفعيل ممارستها طائفيا ومذهبيا سيخسرون كل ما كسبوه في السنوات الثلاثين الماضية

واتسعت دائرة النقد تجاه النظام من جميع نشطاء المجتمع المدني (أفرادا ومنظمات) ومن مختلف الشرائح والفئات الاجتماعية، وأصبح يعاني من تضخم أزماته وتنوعها، ولم يعد قادرا حتى على إدارتها وهنا انفلتت الأمور حيث المعالجات الأمنية لا تنفع مع المطالب القانونية والشعبية.


ومع تزايد القتلى والجرحى والمعتقلين من أبناء الجنوب برزت الأهمية إلى توسيع التحافات مع الشخصيات القيادية التي تعيش في الخارج وتفعيل النشاط الاحتجاجي في الداخل ورفع سقف المطالبات والشعارات وصولا إلى فك الارتباط فيما بعد.


والجدير بالذكر أن مجمل السياسات الاقتصادية والأمنية والإدارية التي تعتمدها الحكومة اليمنية حاليا ومنذ عام 95 تشكل في مجملها تحفيزا لأفراد المجتمع للانقلاب على الوضع القائم، فهي تنفر المجتمع وتعكر المزاج الفردي والجمعي. فمنذ عام 95 ومع بداية برنامج الإصلاح الاقتصادي، والمواطن اليمني يتحمل تبعات كل السياسات الاقتصادية الخاطئة والموجهة عمدا نحو إفقار المجتمع دون أي أمل حقيقي بتحسن الأوضاع المعيشية، وهنا تزايدت الاحتجاجات في الشمال والجنوب، وتم مواجهتها بالقمع والاعتقالات. ولحساسية الأوضاع في الجنوب بعد الحرب، فقد تشكل شعور لدى أبناء الجنوب أنهم منهزمون وأن المنتصر والغالب من حقه التحكم بالسلطة والثروة.


وفقا لذلك يمكن القول إن الاحتجاجات في المحافظات الجنوبية ذات منشأ داخلي لا ترتبط بالخارج، فهي تعبير عن أزمة النظام في تعاملاته السيئة مع مواطنيه ومع تعقد الأمور وتزايد الصدامات والمواجهات برزت إلى العلن قيادات جنوبية تعيش في الخارج تعبر إقليميا ودوليا عن مشروع سياسي يهدف في حده الأدنى إلى تحقيق المواطنة المتساوية ودولة القانون والمشاركة في السلطة والثروة وفي حده الأعلى فك الارتباط وإعادة الجنوب إلى سابق عهده كدولة مستقلة.


جميع الأحداث في الجنوب والشمال وما يرتبط بها تشكل انعكاسا لأزمة بنيوية شاملة يتصف بها نظام الحكم في اليمن، وعدم معالجتها سريعا وفق رؤى عقلانية إنما تدفع باليمن إلى حالة الانهيار والتفكك والحروب الأهلية. وهو الأمر الذي حذرنا منه في أكثر من دراسة كتبناها في هذا الشأن.


صفوة القول إنه لا مستقبل في اليمن لحركة سياسية ذات إطار مذهبي أو طائفي ذلك أن الجميع من قبائل الشمال وخاصة حاشد، وكذا الرئيس صالح يعرفون أنه إذا تم البناء السياسي للدولة وتفعيل ممارستها طائفيا ومذهبيا سيخسرون كل ما كسبوه في السنوات الثلاثين الماضية. سيكون وضعهم مثل الطائفة المارونية في لبنان التي خسرت الكثير من مواقع نفوذها بعد الحرب الأهلية.


فالتوازن الديموجرافي في اليمن تتزايد فيه أعداد السنة وتتسع مساحاتها الجغرافية وتتنوع خبراتها السياسية والاقتصادية وسيتم دعمهم إقليميا ودوليا إذا ما تعرضوا للاضطهاد على أساس طائفي أو مذهبي.


في هذا السياق يدعو كاتب هذه السطور إلى دولة مدنية في اليمن تتأسس على مرتكزات الحداثة السياسية بلوازمها الدستورية والقانونية يكون نظامها السياسي ديمقراطيا تتسع فيه حرية المواطنين من حيث إن الديمقراطية هي التي تخلق علاقة انتماء حقيقية بين أناس يشعرون بحرية الاختيار وبناء المجتمع الذي ينشدون العيش فيه وفق مبدأ المواطنة. وهنا يجب أن تكون الدولة الحديثة مؤسسة عامة وطنية تتعالى على الارتباط العضوي مع أي مؤسسة تقليدية الأمر الذي يعنى ضرورة أن تكون مؤسسة عامة تعمل وتنشط وفق محددات قانونية تحقق المواطنة المتساوية.


في هذا السياق يمكن القول إن تعميق الاندماج الاجتماعي والوطني يتطلب على الصعيد السياسي آلية تقوم بتسوية التناقضات الاجتماعية والاقتصادية الناتجة عن غياب عملية تكافئ الفرص وعن التمييز وعدم المساواة، وتحقيق نوع من الاجتماع السياسي ومركزه الولاء الوطني وتحقيق مطابقة بين الانتماء الوطني والشعور بالهوية المشتركة وفرص المشاركة في بناء وتطوير الشأن العام.
_______________
أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة صنعاء