من وسط الأبنية المتهدمة للمدينة القديمة في الموصل، يطل الفريق الركن، عبد الوهاب الساعدي، أحد أبرز قادة جهاز مكافحة الإرهاب (الفرقة الذهبية)، ليرمي قنبلة يدوية على ما يُفترض أنه واحد من معاقل (تنظيم الدولة) الأخيرة. هذه الصورة المكثفة التي راجت في الأوساط الشعبية العراقية، مهَّدت لما تبعها من إعلان رئيس الوزراء، حيدر العبادي، استرجاع الموصل التي سقطت بيد التنظيم، في 10 يونيو/حزيران 2014. لكن وسط المظهر الاحتفالي الذي أحاط بتلك المشاهد، لا يبدو أن أحدًا يمتلك جوابًا شافيًا عن السؤال: وماذا بعد؟
أنتجت الحرب المتواصلة ضد تنظيم الدولة وقائعها الخاصة، من حيث إعادة تشكيل موازين القوى وأدوار الفاعلين الدولتيين وغير الدولتيين، فضلًا عن الفاعلين الخارجيين، ورغم أنها أفضت إلى نهاية مشروع دولة الخلافة الذي أعلنه أبو بكر البغدادي قبل ثلاثة أعوام، فإنها لم تستطع حسم صراعات أخرى يحتمل تصاعدها بين "المنتصرين"، أولًا: حول إدارة تركة التنظيم، وثانيًا: حول مواقع الفاعلين المتعددين، وثالثًا: حول الإطار السياسي المستقبلي لعراق ما بعد معركة الموصل.
يتصدى هذا التحليل لبعض من هذه القضايا، مبتدئًا برسم خريطة للفاعلين المحليين وتوازنات القوى بعد معركة الموصل، ثم نقاط الصراع المحتملة فيما يخص إدارة المناطق التي ظلت خاضعة لتنظيم الدولة، وأخيرًا علاقة هذه القضايا بالإطار السياسي العام للبلد.
خريطة وتوازنات القوى
- التشكيلات الرسمية
من المعروف أن هناك عدة أطراف انخرطت -بدرجات مختلفة- في معركة الموصل. وقع الجهد العسكري الأكبر على القوات الرسمية الحكومية العاملة تحت قيادة عمليات نينوى التي ترأَّسها الجنرال، عبد الأمير يار الله. وتوزعت القوات الرسمية بين جهاز مكافحة الإرهاب الذي أنشأته ودرَّبته القوات الخاصة الأميركية منذ العام 2003 ويُنظر إليه على نطاق واسع بأنه من أكثر التشكيلات العسكرية انضباطًا ومهنية(1)، والشرطة الاتحادية وقوات الرد السريع المرتبطتين بوزارة الداخلية، والفرقتين 15 و16 من الجيش العراقي. وقع الجهد العسكري الأكبر في عمليات شرق الموصل على جهاز مكافحة الإرهاب الذي تعرَّض إلى الاستنزاف وفقد حوالي نصف قوته التسليحية في تلك المرحلة، ثم انضمت إليه قوات الشرطة الاتحادية والرد السريع في عمليات الجانب الغربي، بينما ظلت الفرقتان 15 و16 من الجيش العراقي تقومان بدور هامشي يتركز أساسًا على الإمساك بالأرض المحررة في أطراف الموصل(2).
هنالك قناعة واسعة الانتشار بأن معركة الموصل أسهمت باستعادة القوات الرسمية لقدر كبير من الثقة التي فقدتها عند انهيارها إثر دخول تنظيم "الدولة الإسلامية" إلى المدينة، في 10 يونيو/حزيران 2014، كما أن تولي تلك القوات المراحل الأكثر خطورة من العملية أسهم في تخفيف الاحتقان الإثني والطائفي الذي كان سيتصاعد لو أحيلت الأدوار الرئيسية فيها لتشكيلات غير رسمية أو شبه رسمية كقوات الحشد الشعبي الشيعية أو البيشمركة الكردية. وكانت الحكومة العراقية قد رفعت حجم الإنفاق العسكري بشكل كبير منذ انطلاق الحرب على تنظيم الدولة، وبلغت التخصيصات المالية للتشكيلات العسكرية الرسمية ما قيمته 25.83 مليار دولار في ميزانية العام 2017 المقدَّرة بـ85 مليار دولار (أي 29? من الميزانية العامة)(3)، واشتمل ذلك على تكاليف إعادة تجهيز وإعداد وتدريب القوات العراقية، فضلًا عن الدعم الخارجي وتحديدًا الأميركي في إطار ما يُعرف ببرنامج التمويل العسكري الأجنبي وبرنامج التدريب العسكري الدولي المداريْن من قبل وزارة الخارجية الأميركية، وصندوق التدريب والتجهيز المدار من وزارة الدفاع الأميركية في إطار قوة المهام المشتركة التي تنظِّم التعاون العسكري بين الجانبين، والذي تجاوزت تخصيصاته ملياري دولار بين العامين 2015 و2017(4).
مع ذلك، يبدو من الضروري الحذر من المبالغة في تقدير جاهزية القوات الرسمية؛ فرغم أن عمليات الرمادي والموصل وغيرهما أسهمت بدون شك برفد تلك القوات بخبرة قتالية، تحديدًا في حرب المدن ومكافحة الإرهاب، إلا أن التفاوت بين جاهزية تلك التشكيلات ما زال واضحًا، خصوصًا الفرق الكبير بين قوات النخبة (جهاز مكافحة الإرهاب والرد السريع) المحدودة عددًا وقوات الجيش التي لم يجر اختبارها بما يكفي، تحديدًا من ناحية قدرتها على الإمساك بالأرض لفترة طويلة وطبيعة العلاقات التي ستنشئها مع السكان المحليين. ورغم أن رئيس الوزراء الحالي، حيدر العبادي، سعى إلى إجراء تغييرات مهمة على مستوى القيادات العسكرية تخلَّص من خلالها من معظم الجنرالات الذين تم تعيينهم لدوافع سياسية في فترة حكم رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، إلا أن ذلك لم يُنهِ تمامًا تأثير الانقسامات الطائفية والإثنية على بنية تلك التشكيلات، خصوصًا في إطار استمرار نظام المحاصصة الذي تخضع بموجبه وزارة الداخلية، وهي الوزارة الأكبر حجمًا في العراق، لإدارة وزير تابع لمنظمة بدر، بينما تخضع وزارة الدفاع لإدارة وزير تابع لاتحاد القوى الوطنية (السُّنيَّة).
- التشكيلات غير الرسمية
فيما يخص التشكيلات غير (أو شبه) الرسمية، فإن التشكيليْن الأساسيين هما: (الحشد الشعبي) و(البيشمركة)، يضاف إليهما تشكيل أقل أهمية أسَّسه محافظ نينوى السابق وعُرف بداية باسم (حرس نينوى) قبل أن يتم تغيير اسمه الى (الحشد الوطني).
منذ معركة تكريت التي لعبت فصائل الحشد الشعبي دورًا بارزًا في مراحلها الأولى أصبحت قضية مشاركة تلك الفصائل في عمليات داخل المدن ذات الغالبية السنية تثير إشكالية من حيث الحساسيات الطائفية التي ترتبط بها، وبسبب ارتباط فصائل رئيسية منها بالحرس الثوري الإيراني. وقد لعب الضغط الأميركي دورًا في إقناع رئيس الوزراء، العبادي، بتحجيم دور تلك الفصائل منذ معركة الرمادي، ودفعها إلى مهمات أكثر هامشية ومتركزة على مناطق طرفية. وجرى اتباع نفس الاستراتيجية في معركة الموصل؛ حيث مُنِع الحشد الشعبي من المشاركة في معارك المدينة؛ الأمر الذي جعله يركز جهده على محيط وأطراف محافظة نينوى، وتحديدًا عبر الاندفاع باتجاه الحدود العراقية-السورية ومناطق غرب الموصل. وباعتبار أن تشكيل (الحشد الشعبي) يتبع رسميًّا رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، حاول قادة الحشد الالتزام بالخطوط العامة المرسومة لحركتهم في نينوى لكن ذلك لم يجر دون التعبير عن الاحتجاج على عدم منحهم أدوارًا أوسع، كما فعل رئيس منظمة بدر، هادي العامري، في لقاء تليفزيوني(5). ولم يخف بعض قادة الحشد اعتراضهم على إدارة العمليات ونهجها، بل وفكرة الشروع بمعركة الموصل قبل تحرير مناطق أخرى كتلعفر والحويجة. يضاف إلى ذلك اعتراضات متواترة عبَّر عن بعضها نائب رئيس الحشد الشعبي، أبو مهدي المهندس، تجاه ما اعتبره شُحًّا في التخصيصات المالية الممنوحة لتشكيلات الحشد الشعبي بالمقارنة بالقوات الحكومية الرسمية(6). وقد تلقت قوات الحشد الشعبي المقدَّرة رسميًّا بـ122 ألف عنصر، ما مجموعه 1.63 مليار دولار من التخصيصات الحكومية العراقية، فيما تحصل بعض الفصائل على دعم إيراني غير محدد، فضلًا عن الدعم الذي تقدمه جهات غير رسمية لفصائل أخرى كدعم إدارات العتبات الشيعية لبعض الفصائل غير المقربة من الحرس الثوري الإيراني(7).
أمَّا دور البيشمركة، فقد تركز على الأطراف الشرقية لمحافظة الموصل، وتحديدًا الأقضية (المناطق) التي يعتبرها إقليم كردستان جزءًا من "المناطق المتنازع عليها" والتي استطاع الإقليم السيطرة على حوالي 70? منها، مما زاد مساحة الأراضي الخاضعة لسيطرة الكرد في العراق بـ40?(8). كما سعت البيشمركة التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم في أربيل إلى السيطرة على منطقة سنجار ذات الغالبية الأيزيدية، بدعم من الجيش التركي ومن تشكيل يُعرَف ببيشمركة "روج أفا" المدعوم من تركيا، وجرى ذلك بالتنافس مع فصائل أيزيدية محلية (وحدات مقاومة سنجار) المدعومة من حزب العمال الكردستاني، ومع فصائل محلية أخرى مرتبطة بـ(الحشد الشعبي) الذي سعت قواته إلى التقدم في بعض مناطق سنجار بعد السيطرة على القحطانية. أمَّا (الحشد الوطني) فقد سُمح له بالتحرك بشكل محدود في مناطق شمال الموصل بمعية الجيش العراقي(9).
بؤر محتملة للصراع
بسبب قيمتها التاريخية، ولكونها ثاني أكبر المدن العراقية وكبرى المدن ذات الغالبية العربية-السُّنِّية، ولأنها المكان الذي أعلن منه أبو بكر البغدادي إنشاء "دولة الخلافة"، فإن الموصل اكتسبت أهمية رمزية عالية سواء حين استولى عليها تنظيم الدولة أو حين استعادتها القوات الحكومية. مع ذلك، فإن الحسابات الاستراتيجية الأكبر بخصوص مسارات هذه الحرب ترتبط باتجاهات المعارك المقبلة خصوصًا في مناطق تلعفر والحويجة وغرب الأنبار. الأهم من ذلك، هو نوع الترتيبات التي سيتم اعتمادها في إدارة المناطق المحررة وفي توزيع مناطق النفوذ.
لابد من الإشارة هنا إلى أن التنافس وعدم الانسجام بين الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة إقليم كردستان والحكومة المحلية في نينوى كان أحد أسباب ظهور الفراغ الأمني الذي قام تنظيم الدولة باستثماره ليستولي على المحافظة. تأجج هذا التوتر خلال الدورة الثانية لرئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، وتحديدًا مع انسحاب القوات الأميركية، وما رافق وتلا ذلك من تقارب بين محافظ الموصل السابق، أثيل النجيفي، وحكومة إقليم كردستان في ظل نوع من الرعاية التركية؛ الأمر الذي رفع مستوى التوتر مع المالكي الذي بادر باتخاذ إجراءات استهدفت تنصيب قادة أمنيين في المحافظة يدينون بالولاء الشخصي له، مثل مهدي الغراوي الذي شغل موقع قائد قوات عمليات نينوى عند سقوط الموصل بيد تنظيم الدولة، وإقصاء الضباط غير الموالين. وكما يجادل مايكل نايتس(10)، فإن الصراع بين المالكي والنجيفي جعل كل واحد منهما يقوِّض الآخر، فَوَهَنَت قوة الحكومة المحلية التي كان يشوب علاقتها مع القوات الاتحادية المتواجدة في المدينة الكثير من التوتر، وانعزلت القوات الاتحادية التي تدهورت علاقاتها مع السكان المحليين بسبب الشك المتبادل والإساءات التي اتُّهمت تلك القوات بارتكابها. وفي وقت كان تنظيم الدولة قد أنشأ شبكاته الداخلية التي تعمل بشكل شبه سري ونشط لاختراق المجتمعات المحلية وانتزاع الموارد عبر ابتزاز أصحاب العمل والمتعاقدين، واستثمار الاحتكاك مع القوات العسكرية لتأجيج أزمة الثقة بينها وبين السكان.
(الجزيرة) |
يبدو أن هذا التنافس بين أربيل وبغداد سيلقي بظلاله على مستقبل الاستقرار في هذه المنطقة؛ ذلك أن حكومة إقليم كردستان تسعى إلى تكريس وشَرْعَنَة سيطرتها على معظم المناطق المتنازع عليها التي ظلت فيما سبق جزءًا مما يسمى بالحزام الأخضر الذي كانت تسير فيه دوريات مشتركة بين القوات الاتحادية والقوات الكردية وقوات التحالف، قبيل الانسحاب الأميركي من العراق. وبينما تحاول حكومة العبادي تجنب الصدام مع الإقليم في هذه المرحلة، خصوصًا بوجود قناة وساطة أميركية مستمرة بين الجانبين غايتها التركيز على الصراع مع تنظيم الدولة، فقد اقترب التوتر من مستوى الصدام أحيانًا بين البيشمركة والحشد الشعبي في مناطق مثل طوز خورماتو وداقوق وسنجار. ويزداد تعقيد الصورة هنا بسبب وجود أطراف أخرى كحزب العمال الكردستاني الذي قدَّم دعمًا قويًّا لوحدات مقاومة سنجار الأيزيدية ويسعى لربط قضاء سنجار بمعاقله في جبال قنديل؛ الأمر الذي استدرج تدخلًا تركيًّا عن طريق بيشمركة (روج آفا) بالتعاون مع الحزب الديمقراطي الكردستاني. ويبدو أن هذا الوضع قد أنشأ توافقًا للمصالح بين (الحشد الشعبي) وحزب العمال الكردستاني غايته منع مدِّ النفوذ التركي إلى سنجار والحد من سيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني. وحاليًّا هناك التزام من مختلف الأطراف بتجنب الصدام العسكري، لكن هذه الهدنة قد لا تصمد طويلًا، بسبب تعدد الفاعلين ووجود تباين بين مصالحهم. ولذلك تطالب بعض القيادات الأيزيدية والمسيحية بإنشاء محافظة مستقلة للأقليات في سهل نينوى ومنح سنجار استقلالية ذاتية لإدارة شؤونها(11).
لكن التنافس الإيراني-التركي يتخطى قضية سنجار ويتداخل مع رقعة جيوسياسية أوسع تتجاوز الحدود العراقية. فإيران وحلفاؤها في العراق يحاولون توظيف الوقائع الجديدة الناتجة عن الصراع مع تنظيم الدولة لتوسيع رقعة نفوذهم في المناطق ذات الغالبية السُّنِّية، وإقامة ممر آمن لتحركهم بين الحدود العراقية-الإيرانية والحدود العراقية-السورية. وقد اتجهت تشكيلات الحشد الشعبي نحو السيطرة على صحراء البعاج التي تربط نينوى بالحدود السورية، وقامت بنصب بعض المواقع لها على الحدود، وبعضها توغل عبر الحدود السورية واقترب من القاعدة العسكرية الأميركية في التنف مما استدعى قصفًا أميركيًّا ضدها. وبحسب بعض المراقبين، فإن الفصائل المقربة من إيران تشتغل على تعبيد طريق بري يمتد من الحدود العراقية-الايرانية ويمر بمحافظتي ديالى وصلاح الدين وصولًا إلى تلعفر التي يجري ربطها بصحراء البعاج ومن ثم الحدود العراقية-السورية(12).
سيكون قضاء تلعفر محطة أساسية لهذا التنافس بين إيران وتركيا؛ فديمغرافيًّا تقطن القضاء غالبية تركمانية، منقسمة طائفيًّا إلى غالبية سُنِّية وأقلية شيعية. ولطالما اعتبرت الحكومة التركية الدفاع عن حقوق التركمان في العراق إحدى مسؤولياتها، خصوصًا حينما يكون هناك توتر بين التركمان وبين طرف آخر مناوئ أو غير صديق. في المقابل، فإن القوى الشيعية ومن ورائها إيران تعتبر الدفاع عن الأقلية التركمانية الشيعية في تلعفر -والتي هاجر معظم أفرادها القضاء بعد استيلاء تنظيم الدولة عليه – من واجباتها. غير أن البعد الديمغرافي ليس وحده المتحكم بهذا التنافس. فتلعفر قد تشكِّل أيضًا امتدادًا لجغرافيا جديدة تسعى الفصائل الشيعية المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني إلى تشكيلها في غرب الموصل وفي إطار فكرة إنشاء محافظة جديدة مستقلة عن نينوى باسم تلعفر، وهي فكرة تبناها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي لكنها لم تحظ بمصادقة مجلس النواب. وإذا أعيد إحياء الفكرة، فعلى الأرجح ستميل القوى القريبة من إيران إلى ربط تلعفر بقضائي الحضر والبعاج من أجل تأمين وجود وحدة إدارية شاسعة على الحدود العراقية-السورية تحت نفوذها. إلا أن هذا السيناريو يواجه مصاعب تتعلق بالتركيبة الديمغرافية لتلك المناطق التي تظل غالبيتها من السكان العرب-السُّنَّة، وعدم حماس حكومة العبادي لهذا النوع من المشاريع؛ الأمر الذي يفسِّر تقارير تشير إلى نية العبادي سحب ملف تلعفر من الحشد الشعبي وإيكاله إلى القوات الحكومية الرسمية.
الإطار السياسي العام
لكن مجمل هذه التوترات يرتبط تأثرًا وتأثيرًا بالسياق السياسي العام في البلد، وهنا تكمن الإشارة إلى ثلاثة عناصر أساسية تتحكم بهذا السياق:
الأول: مستقبل العلاقة بين كردستان وبغداد: من المعلوم أن رئيس إقليم كردستان، مسعود البارزاني، كان قد أعلن نيته إجراء استفتاء لتقرير مستقبل الإقليم في شهر سبتمبر/أيلول 2017. وبغضِّ النظر عن العوامل الداخلية التي دفعته إلى هذا الإعلان، فإن إمكانية ظهور دولة كردية منفصلة عن العراق في الأمد القريب يظل احتمالًا صعبًا نظرًا للكوابح الداخلية (الصراعات بين القوى الكردية الداخلية والأزمة الدستورية في الإقليم)، والكوابح الخارجية (معارضة معظم دول الجوار المحاذية لحدود كردستان والتحفظ الأميركي الذي عبَّر عنه بعض أعضاء الكونغرس بالقول إنهم سيقطعون أي مساعدات عسكرية لكردستان إن استقلت عن العراق)(13). وبسبب إدراكه لذلك، فإن البارزاني يحاول الفصل بين نتائج الاستفتاء التي ستميل على الأرجح لصالح الاستقلال، وبين الخيارات السياسية التي سيتخذها بناءً على تلك النتائج (ومن خلال ذلك سيتضح ما إذا كان هذا الاستفتاء هو حملة لتجديد شرعيته ولإضعاف خصومه الكرد أو استراتيجية حقيقية لإنشاء دول مستقلة). في مقالة له نشرتها الـ"واشنطن بوست"، ألمح البارزاني إلى أن الاستفتاء لا يعني الانفصال مباشرة عن العراق بل الدخول بمفاوضات حول ترتيبات جديدة للعلاقة مع بغداد، يميل بعض القادة الكرد إلى تبنيها كمدخل لإنشاء إطار كونفيدرالي لتلك العلاقة(14).
وعلى الأرجح يسعى الإقليم إلى الاستفادة من نتائج الصراع مع تنظيم الدولة لتأكيد سيطرته على معظم المناطق المتنازع عليها والتعجيل بتقرير مستقبل كركوك. في المقابل، فإن بغداد التي أعلنت رسميًّا عن رفضها لفكرة الاستفتاء، لا تبدو في وضع من يمتلك تصورًا بديلًا واضحًا للعلاقة بين الجانبين. مع ذلك، فإن الاستفتاء قد يسمح بالشروع بمفاوضات جديدة تسهم إما في إعادة تأطير الفيدرالية العراقية أو بترتيب جديد يحكم العلاقة بين بغداد وأربيل، لكن مثل هذا الترتيب يظل بحاجة إلى ضامن خارجي قوي كالولايات المتحدة، وقبول الطرفين الإقليميين المؤثِّريْن في هذه المعادلة: تركيا وايران.
ثانيًا: إعادة دمج "العرب السُّنَّة": هناك اتفاق عام على أن صعود تنظيم "الدولة الإسلامية" ونجاحه بالاستيلاء على حوالي ثلث مساحة العراق كان محصِّلة للتوتر والانقسام الطائفي الذي تصاعد خلال الدورة الثانية من حكم رئيس الوزراء السابق. ومن هنا، فإن البحث عن آلية بديلة لإدارة المناطق الموصوفة بالسُّنِّية، ولبناء الثقة بين المؤسسات الاتحادية وسكان تلك المناطق، ولإنتاج تمثيل أكثر صدقية للسكان في مؤسساتهم المحلية والمؤسسات الاتحادية، يمثِّل قضية رئيسية في النقاش الجاري حول مرحلة ما بعد تنظيم الدولة.
مؤخرًا، عقدت بعض القوى السياسية السُّنِّية مؤتمرًا في بغداد في محاولة لتوحيد الموقف السُّنِّي، ومن المنتظر انعقاد المزيد من المؤتمرات بهذا الصدد(15)، إلا أن هذا النهج لا يبدو ذا فائدة كبيرة نظرًا لانقسام تلك القوى وتنافساتها البينية، وضعف قدرتها على تمثيل المجتمعات المحلية التي مرت بتحولات هائلة في الأعوام الثلاثة الأخيرة. ويمكن لرئيس الوزراء، العبادي، البناء على المقبولية التي يبدو أن القوات الحكومية الرسمية قد حظيت بها، كبديل أفضل من الميليشيات والفصائل غير المنضبطة، لتبنِّي سياسات سريعة لبناء الثقة تستهدف تمكين السكان المحليين وممثليهم الأكثر مصداقية من التعبير عن هواجس المجتمعات المحلية وإقامة ترتيبات أكثر فعالية للعلاقة بين تلك المجتمعات والحكومة الاتحادية. وسيكون لطبيعة الترتيبات التي ستقام في الموصل تحديدًا، أثر كبير في تشكيل هذه العملية الانتقالية نظرًا لوجود انقسام سياسي داخل المدينة، وعدم وجود إجماع على قيادة موحدة لإدارة التحديات المتعلقة بإعادة الإعمار وعودة النازحين. وعلى الأرجح، سيرسم الدعم المقدم من الجهات الدولية بعض أبعاد الصورة المستقبلية لإدارة المدن المحررة وعلاقتها مع الحكومة الاتحادية.
ثالثًا: التنافسات الشيعية-الشيعية: حرص العبادي على أن يعلن تحرير الموصل وهو محاط بالقادة العسكريين العراقيين في محاولة لبث رسالة بأن التحرير جرى بشكل خاص على أيدي هؤلاء القادة، وأن الجيش العراقي استعاد هيبته. وفي خطبة ألقاها بنفس المناسبة، كان مقتدى الصدر، الزعيم الشيعي الشعبي، أكثر وضوحًا بالتأكيد على احترام الجيش وهيبته والدعوة لمنع وجود قوات مسلحة خارجه والمطالبة -ضمنيًّا- بحل الحشد الشعبي من خلال الدعوة لدمج عناصره الفاعلة بالمؤسسات المدنية والعسكرية الموجودة(16). على العكس، ركَّز رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، في بياناته وتصريحاته التي تلت استعادة الموصل على دور الحشد الشعبي، المؤسسة التي قام بتشكيلها رسميًّا(17)، وعلى كون هذا التشكيل هو ضمانة مهمة لمستقبل العراق فيما يبدو أنه تمثيل لموقف التيار الشيعي الذي يعمل من أجل تحويل (الحشد الشعبي) إلى تشكيل دائم، وربما إلى مؤسسة عسكرية ذات بُعد عقائدي شبيهة بالحرس الثوري الإيراني.
سيكون لهذه التباينات الشيعية-الشيعية أثر كبير في رسم الإطار السياسي العام للبلد بعد استعادة الموصل، ففي الوقت الذي يرمي الإيرانيون بثقلهم وراء فصائل الحشد الشعبي والتيار الذي يتبنَّى موقفًا أكثر تشددًا تجاه العلاقة مع العرب والسُّنَّة وإقليم كردستان، تدعم الولايات المتحدة العبادي والفريق "المعتدل" والسياسات الهادفة لتقوية التشكيلات العسكرية الرسمية. ويبدو أن العلاقة بين العبادي و(الحشد الشعبي) مرشحة لمزيد من التوتر بسبب الاختلاف بين برنامجي الطرفين ونوع التحالفات ومصادر القوة التي يستندان عليها، وهنا، سيكون لموقف المرجع الشيعي الأعلى، علي السيستاني، الذي يُعتقد أن فتواه لعبت دورًا أساسيًّا في جذب المتطوعين وتحول (الحشد الشعبي) إلى فاعل قتالي رئيسي، أثر مهم على تلك الديناميات، مع وجود احتمال لأن يصدر فتوى جديدة تبطل أثر فتوى "الجهاد الكفائي" التي أعلنها بعد سقوط الموصل بيد تنظيم الدولة.
خلاصة
لا تقلُّ صراعات المنتصرين بعد معركة الموصل خطورة عن الحرب ضد تنظيم "الدولة الإسلامية". من جهة، الاندفاع الكردي للسيطرة على معظم المناطق المتنازع عليها وتأكيد أكبر قدر من الاستقلال -وربما الانفصال- عن بغداد، يواجهه الاندفاع الشيعي نحو تكريس النفوذ الأحادي في المناطق التي تسكنها غالبيات عربية-سُنِّية، وبدون حساب للكثير من الحساسيات المحلية. وإذا كان كل من الاندفاعين يهددان بصدام كردي-شيعي (تحديدًا بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وحلفائه من جهة، وفصائل الحشد الشعبي وحلفائها السياسيين من جهة أخرى)، فإنهما يهددان بإعادة إنتاج ظروف الفوضى وعدم الاستقرار والمظلوميات المحلية التي أسهمت بالدرجة الأساس في صعود تنظيم الدولة. لهذا السبب، يبدو أن قدرة الحكومة العراقية على تبنِّي وتنفيذ رؤية استراتيجية فاعلة لمنع هذه الصراعات قبل تفاقمها، ولإعادة تأهيل المناطق التي كانت تحت سيطرة تنظيم الدولة مع وضع آليات أكثر فاعلية وعدالة وتمثيلية لإدارتها، ستكون محكًّا حاسمًا في رسم الاتجاهات المستقبلية وما إذا كانت ستُفضي إلى صراع أم سلام المنتصرين.
_________________________________
حارث حسن- باحث في الشؤون السياسية العراقية
(1) Witty, David, “The Iraqi Counter-Terrorism Service,” Center for Middle East Policy at Brookings.
https://www.brookings.edu/wp-content/uploads/2016/06/David-Witty-Paper_Final_Web.pdf
(2) Musings on Iraq, “Reviewing The Battle of Mosul, Interview With Ret Col David M. Witty,” 10 July 2017.
http://musingsoniraq.blogspot.it/2017/07/reviewing-battle-of-mosul-interview.html
(3) Inside Iraqi Politics, Issue 144, 10 December 2016; and, Iraq Oil Report, “Iraq Passes 2017 Budget”.
http://www.iraqoilreport.com/news/iraq-passes-2017-budget-20596/
(4) U.S. Department of State, “U.S. Security Cooperation with Iraq,” 22 March 2017.
https://www.state.gov/r/pa/prs/ps/2017/03/269040.htm
(5) حوار رئيس منظمة بدر، هادي العامري، مع قناة العهد:
https://www.youtube.com/watch?v=89VrzEhdnHY
(6) انظر مثلًا: موقع قريش، أكتوبر/تشرين الأول 2015:
http://www.qoraish.com/qoraish/2015/10/أبو-مهدي-المهندس-في-رسالة-العبادي-نريد/
(7) Knights, Michael and Eisensdat, Michael, “Mini-Hizballahs, Revolutionary Guard Knock-Offs, and the Future of Iran's Militant Proxies in Iraq”, War on the Rocks, May 2017.
(8) Coles, Isabel and Kalin, Stephen, “In fight against Islamic State, Kurds expand their territory,” Reuters, October 2016.
http://www.reuters.com/investigates/special-report/mideast-crisis-kurds-land/
(9) Knigts, Michael and Malik, Hamdi, “Building a “Joint Force” to Control Liberated Yazidi Towns,” Washington Institute for Near East Policy.
(10) Knights, Michael, “How to Secure Mosul: Lessons from 2008-2014,” The Washington Institute for Near East Policy, No.38, October 2016.
(11) Knights, Michael, “Turkey’s Waiting Game in Sinjar,” The Washington Institute for Near East Policy, June 2017.
http://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/view/turkeys-waiting-game-in-sinjar
(12) الكبيسي، يحيى ، "معركة الموصل وطريق الحرير الإيراني،" القدس العربي، نوفمبر/تشرين الثاني 2016:
http://www.alquds.co.uk/?p=623573
Chulov, Martin, “From Tehran to Beirut: Shia Militias Aims to Firm Up Iran’s Arc of Influence,” The Guardian, June 2017.
(13) Harris, Bryant, “Congress threatens to cut payments to Iraqi Kurds if they break with Baghdad,” Almonitor, June 2017.
(14) Barzani, Masoud, “The Times Has Come for Iraqi Kurdistan to Make its Choice on Independence,” The Washington Post, June 2017.
(15) "مؤتمر للمعارضين السنة في بغداد بين السياسة والقضاء"، الجزيرة نت، (24 يونيو/حزيران 2017):
https://www.youtube.com/watch?v=XaUPlAVt__c