الانتخابات الرئاسية في الجزائر ديسمبر 2019 وتحديات الاستقرار السياسي

من الصعب التكهن بنتيجة الاستحقاق الرئاسي الوشيك عكس الاستحقاقات السابقة التي كان الحسم واضحًا فيها لصالح مرشحي النظام حتى قبل إعلان النتائج؛ ذلك أن التنافس الشديد بين ابن فليس وتبون أمر ملموس وتوجههما إلى دور ثان يعد احتمالًا واردًا جدًّا.
52d88cd0a84e4a49a8f4be905a50959c_18.jpg
متظاهرون ضد شخصيات نظام الرئيس بوتفليقة (الأناضول)

يترقب الجزائريون من متتبعين ومواطنين موعد الانتخابات الرئاسية ليوم 12 ديسمبر/كانون الأول 2019، لما بات يشكِّله هذا الموعد من أهمية بالغة للكثيرين، لكونه يأتي في سياق سياسي استثنائي، تميز بنهاية فترة حكم الرئيس السابق، عبد العزيز بوتفليقة، بعد عشرين سنة من الحكم (1999 -2019)، ويأتي في سياق حراك شعبي سلمي انطلق منذ 22 فبراير/شباط 2019، والذي يدعو بكل وضوح السلطة الفعلية إلى الامتثال إلى مطالبه وتنفيذها، وعلى رأسها تفكيك منظومة الحكم السابقة ومحاسبة كل الفاسدين فيها ومتابعتهم قضائيًّا، ومنع استنساخ نظام الحكم لنفسه وتمديد عمره من خلال إجراءات انتخابية شكلية. بل يدعو إلى التوجه نحو هندسة سياسية وانتخابية جديدة تعزز القطيعة التامة مع منظومة الحكم السابقة وممارساتها، ونقل الجزائر إلى انفتاح سياسي حقيقي يؤدي إلى بناء ديمقراطي مستمر وفعال تستطيع فيه التشكيلات السياسية والمدنية والنقابية والمواطنون ممارسة حقوقهم السياسية كاملة وبكل حرية، ومنها على وجه الخصوص اختيار ممثليهم من خلال انتخابات ديمقراطية حقيقية شفافة ونزيهة لا تشارك فيها وجوه من نظام الحكم السابق.

ومن جهة أخرى، تكتسي هذه الانتخابات الرئاسية في الجزائر أهمية خاصة، باعتبارها تتعلق بأهم مؤسسة سياسية ودستورية منتخبة (رئيس الجمهورية) لما يتمتع به رئيس الجمهورية من مكانة مهمة في البناء السياسي والدستوري من جهة، وجملة الصلاحيات التي يتمتع بها من جهة أخرى(1). عرفت أغلب المواعيد الانتخابية الرئاسية منذ الاستقلال إلى اليوم اهتماما كبيرا، سواء من طرف النخب السياسية والإعلامية والجامعية، أو حتى من طرف معظم الناخبين الجزائريين الذين عبَّروا عن ذلك من خلال المشاركة الانتخابية التي سجلت في بعض الأحيان نسبًا مرتفعة مقارنة بالمواعيد الانتخابية الأخرى. لكن في المقابل، اختلفت المواعيد الانتخابية الرئاسية في الجزائر من موعد إلى آخر من حيث مضامينها السياسية والقانونية، وشكلت بوجه عام منعرجًا مهمًّا في التحولات السياسية والدستورية التي عرفتها الجزائر منذ الاستقلال. لقد مثَّلت الانتخابات الرئاسية في الجزائر متغيرًا مستقلًّا مهمًّا مسؤولًا عن إحداث التغيرات العميقة في العديد من مكونات العملية السياسية من الفعل الحزبي العام إلى الفعل الانتخابي والإعلامي وغيرها. لكنها في الوقت نفسه أسهمت في الحفاظ على أهم ثوابت النظام السياسي الجزائري ولعل أبرزها قوة ومكانة مؤسسة الرئاسية والمؤسسة العسكرية في البناء السياسي والدستوري للجزائر.

الانقسام السياسي والمؤسسة العسكرية 

لم يتمكن الرئيس السابق، عبد العزيز بوتفليقة، والفريق المساند له من إقناع الحشود الشعبية التي خرجت في مناطق عديدة من الجزائر بتصوره لحل الأزمة السياسية، والتي كان قد تجاهلها لسنوات عدة معتبرًا أن حقيقة الأزمة في الجزائر وطبيعة مطالبها اجتماعية اقتصادية وليست سياسية. إلا أن وضوح الشعارات السياسية في الجمعات الأولى (المسيرات السلمية للحراك الشعبي كانت كلها تقريبًا بأيام الجمعة) من الحراك الشعبي مكَّنت كل المتتبعين للشأن الجزائري من التعرف على الطابع السياسي للأزمة في الجزائر، وأنها أزمة تتعلق بنظام الحكم وممارساته وليست بسياساته الاقتصادية والاجتماعية وبرامجه التنموية التي اعتمد عليها منذ سنوات عديدة. لقد شكَّل تراجع الرئيس، عبد العزيز بوتفليقة، والفريق المساند له عن تنظيم الانتخابات الرئاسية في موعدها الأول (18 أبريل/نيسان 2019) واقتراحه تنظيمها لاحقًا مع تعهده بعدم الترشح إليها(2)، حدثًا متميزًا جدًّا على الصعيدين الداخلي والخارجي، وشكَّل في الوقت نفسه بداية لتدخل الجيش مباشرة في المشهد السياسي، وبداية كذلك لمرحلة من الانقسامات السياسية الحادة في الجزائر استمرت طيلة الأشهر السابقة (مارس/آذار 2019 إلى نوفمبر/تشرين الثاني 2019)، وقد تجلى ذلك في أبعاد متعددة:

أولًا: التوجس من المرحلة الانتقالية ورهان نزاهة الانتخابات

يتجلى الانقسام السياسي الحاد في الجزائر عشية الانتخابات الرئاسية بين فريقين؛ حيث يتمسك الفريق الأول بالمطالب الأولى للحراك الشعبي ويأتي على رأسها رحيل كل الرموز السياسية وغير السياسية من منظومة الحكم السابق خاصة الرئيس المؤقت، عبد القادر بن صالح، والوزير الأول، بدوي نور الدين(3)، كما يرفض تنظيم الانتخابات الرئاسية في ظل هذه الظروف والتي يعتبرها فرصة لأن يجدِّد نظام الحكم نفسه من خلال تنظيمه لانتخابات بمنظومة إدارية وقانونية تشريعية قديمة/جديدة لا توفر الشروط المطلوبة لنزاهتها، وبشخصيات (خمسة مترشحين) كان معظمهم ضمن الأطقم الحكومية التي عملت مع الرئيس السابق، بوتفليقة، طيلة عشرين سنة من الحكم(4). كما يتمسك دائمًا بضرورة محاسبة كل الفاسدين في تلك الحقبة ومتابعتهم قضائيًّا؛ وهو ما يشكِّل التيار الغالب من الحراك الشعبي، في حين يتجه العديد من الشخصيات البارزة من سياسيين وإعلاميين وأكاديميين وحقوقيين وطلبة جامعيين نحو القضايا والأطروحات الأكثر عمقًا، والتي منها ضرورة التوجه نحو مرحلة انتقالية وفق أجندة سياسية جديدة وتعديل عميق في الدستور والقواعد العامة للتنافس السياسي متفق عليها، تضمنها شخصيات سياسية وفكرية بارزة تحظى بقبول شعبي واسع، وتنتهي بتنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية وبناء ديمقراطية جديدة "أو جمهورية ثانية في بعض خطابات هذا الفريق"(5). يواصل هذا الفريق مظاهراته السلمية في يوم الجمعة من كل أسبوع والتي يعتبر أنها السبيلُ الوحيدُ لإقناع السلطة الفعلية الحاكمة بمطالبها.

يتمثل الفريق الآخر في السلطة الفعلية الحاكمة والفريق المساند لها، ممثلة في هيئة أركان الجيش برئاسة الفريق، أحمد قايد صالح، والرئيس المؤقت، عبد القادر بن صالح، وطاقمه الحكومي برئاسة بدوي نور الدين، وبعض الأحزاب السياسية والجمعيات والإعلاميين ووسائل الإعلام الخاصة والشخصيات السياسية البارزة. يتمسك هذا الفريق بالحل الدستوري (أي استبعاد أطروحة المرحلة الانتقالية) الذي يعتبره الوسيلة الوحيدة التي تمكِّن الجزائر من الحفاظ على استقرارها من جهة، ويجنِّب أو يخفض مستوى التدخلات الأجنبية في الشأن الداخلي للجزائر(6). لقد عبَّر الفريق، أحمد قايد صالح، منذ سقوط الرئيس السابق، عبد العزيز بوتفليقة، عن تفضيله للحل الدستوري السلمي الذي يبدأ بتفعيل المادة 102 من الدستور وينتهي بتنظيم انتخابات رئاسية جديدة. كما يعلن هذا الفريق إلى ضمان حق وحرية الجمهور في التظاهر سلميًّا في كل جمعة من جمعات الحراك، من خلال اتخاذ بعض التدابير الاستثنائية في بعض الأحيان لضمان سلامة المتظاهرين وضمانًا للوحدة الوطنية، بعدما توفرت لديه معلومات عن محاولات لزعزعة الاستقرار الأمني من جهة ومحاولات أخرى نحو التدخل الخارجي من بعض الحكومات الأجنبية بالتنسيق مع بعض الأطراف داخل الجزائر. تلك التدابير الاستثنائية التي تعتبرها بعض الأوساط الحقوقية من الجزائر وخارجها انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان مثل: اعتقال نشطاء الحراك، ومنع سكان المناطق الأخرى من الانضمام للمتظاهرين في العاصمة. كما يتمسك هذا الفريق بتنظيم الانتخابات الرئاسية التي يعتبرها استكمالًا للمسار الدستوري الطبيعي من جهة وخروجًا آمنًا من الأزمة السياسية الحادة التي تعرفها الجزائر. فبالرغم من فشل محاولته الأولى في تنظيم الانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة يوم 4 يوليو/تموز 2019 بعدما امتنعت أحزاب وشخصيات سياسية عديدة عن المشاركة فيها، اتجهت السلطة الفعلية الحاكمة في الجزائر نحو تنظيم انتخابات رئاسية جديدة يوم 12 ديسمبر/كانون الأول 2019.

ثانيًا: التدابير الرسمية: امتثال لمطالب الحراك 

المتتبع لتطور الأحداث في الجزائر يستنتج للوهلة الأولى تراجع مستوى التعبئة للحراك الشعبي في الأسابيع الأخيرة مقارنة بالأشهر الأولى، وهذا راجع بالأساس إلى التدابير الرسمية (ذات الطابع السياسي والقضائي والتشريعي) التي اعتمدتها الجهات الرسمية (بالتنسيق مع هيئة أركان الجيش الوطني الشعبي بقيادة الفريق، أحمد قايد صالح) والتي عبَّر عنها الفريق، أحمد قايد صالح، في أكثر من مناسبة على أنها تلبية لمطالب الحراك الشعبي، وامتثالًا لتطلعاته في إطار من الحفاظ على المصلحة العليا للبلاد وتحقيقًا لاستقراره وحفاظًا على سلامة المواطنين. تمثَّلت تلك التدابير في شقها السياسي في إطلاق حوار وطني شامل كلفت بمهمته شخصيات سياسية وجامعية وحقوقية ومدنية بارزة برئاسة كريم يونس (رئيس المجلس الشعبي الوطني سابقًا) فيما سُمي بالهيئة الوطنية للحوار والوساطة(7) بهدف التشاور حول الإجراءات الواجب اتخاذها لتنظيم انتخابات رئاسية نزيهة، وهو مطلب مشترك ما بين العدد الكبير من التشكيلات السياسية والمنظمات المدنية والنقابات والشخصيات والجامعيين والحقوقيين، الذين تواصلت معهم وبلغ عددهم -حسب منسق الهيئة- 23 حزبًا سياسيًّا و5676 مشاركًا، لكن اعتبرته قوى سياسية أخرى والحراك بأنه لا يمثلها ولم تستشر في اختياره وليست ملزمة بتوصياته ورفضت المشاركة في أشغاله. كما قدم العديد من الأطراف المشاركة في الحوار الوطني مقترحات أخرى لمرحلة ما بعد الانتخابات الرئاسية تتعلق بالبناء الديمقراطي أو بمطالب قطاعية فئوية. أنهت الهيئة الوطنية للحوار والوساطة برئاسة كريم يونس عملها بتقديم مقترحاتها إلى رئيس الدولة المؤقت، عبد القادر بن صالح. من المقترحات تلك التي وجب تجسيدها قبل الانتخابات الرئاسية والأخرى التي يتعين تحقيقها عقب ذلك. ففيما يتعلق بالمجموعة الأولى، ترى أطراف الحوار ضرورة الذهاب إلى انتخاب رئيس الجمهورية في إطار الدستور القائم وفي أقرب الآجال الممكنة، مع السهر على تحقيق الشروط والآليات السياسية والقانونية الضامنة للنزاهة والشفافية والحياد التي ظل الشعب يطالب بها منذ أمد غير قريب، كما يتوجب استبعاد وزارة الداخلية (كجهة حكومية) عن أية مرحلة من مراحل تنظيم الانتخابات وإسناد جميع صلاحياتها في ذلك لهيئة مستقلة تُستحدث لذات الغرض المتعلق بتنظيم جميع مراحل العملية الانتخابية(8).

أما فيما يتصل بالمجموعة الثانية من المقترحات فهي تلك التي تتعلق بمرحلة ما بعد الرئاسيات، فتقرير لجنة الحوار والوساطة يقترح الدخول مباشرة في مرحلة انتقالية دستورية، تفتح فيها الورشات الإصلاحية الكبرى، من أجل شرعنة عمل كافة المؤسسات الدستورية والمرافق العمومية، وتكييف دورها بدءًا بإجراء تعديل دستوري شامل أو إعداد دستور جديد ثابت، يُطرح لاستفتاء شعبي للمصادقة عليه ويكون متبوعًا بتكييف الترسانة القانونية والإدارية ككل.

وفي الشق القضائي، توجهت السلطة الفعلية الحاكمة نحو اتخاذ كافة التدابير التي تتيح لها محاسبة الفاسدين من منظومة الحكم السابقة ومتابعتهم قضائيًّا ضمن الأطر القضائية والتشريعات الوطنية المتعلقة بذلك، حيث تم فتح التحقيقات في العديد من قضايا الفساد التي شكَّلت اهتمام الرأي العام الداخلي في السنوات الأخيرة من حكم الرئيس السابق، عبد العزيز بوتفليقة، منها على وجه الخصوص: قضية الطريق السيَّار شرق/غرب وقضية تركيب السيارات وقضية العقار الفلاحي والقروض البنكية. وفي سابقة هي الأولى في الجزائر شملت التحقيقات والاعتقالات والمحاكمات شخصيات نافذة جدًّا منهم مدير المخابرات السابق، الفريق محمد مدين، وطرطاق وشقيق الرئيس، السعيد بوتفليقة، الذي تعتبر جهات كثيرة متابعة للشأن الجزائري أنه كان الحاكمَ الفعليَّ للبلاد بعد مرض شقيقه، الرئيس بوتفليقة، منذ سنة 2013. كما شملت تلك الإجراءات، التي وُصفت بالاستثنائية في مسار تطور القضاء الجزائري، رئيسيْن للوزراء، هما: عبد المالك سلال وأحمد أويحيى، ووزراءَ سابقين وشخصيات سياسية بارزة، منها: لويزة حنون وكريم طابو ورؤساء أحزاب (ما كان يسمى التحالف الرئاسي السابق) ورجال أعمال، منهم على وجه الخصوص: علي حداد وطحكوت محيي الدين، ممن كانوا يشكلون الفريق المساند للرئيس السابق، بوتفليقة(9). لقد عبَّرت شريحة واسعة من المواطنين عن رضاها بتلك الإجراءات التي اعتبر قائد الجيش، أحمد قايد صالح، أنها تأتي استجابة لمطلب مهم من مطالب الحراك الشعبي. في حين ينظر إليها قطاع واسع من المحتجين أنها تصفية حسابات والعديد من الحقوقيين على أنها إجراءات متسرعة وانتقائية من طرف الجهات الرسمية، ذات أهداف سياسية متعلقة بإنجاح موعد الانتخابات الرئاسية.

ومن التدابير التشريعية التي اعتمدتها السلطة الفعلية الحاكمة بعد سقوط الرئيس السابق، بوتفليقة، كاستجابة لمقترحات هيئة الحوار والوساطة وتحضيرًا للانتخابات الرئاسية ليوم 12 ديسمبر/كانون الأول 2019، تدبيران تشريعيان، هما: القانون 19-8 المتعلق بنظام الانتخابات والقانون 19-7 المتعلق بالسلطة الوطنية المستقلة للانتخابات، وتمثل هذه الأخيرة سابقة حقيقية في الجزائر على اعتبار أن كل المواعيد الانتخابية التي عرفتها الجزائر بعد الاستقلال (منذ سنة 1962) كانت كلها من إعداد وتنظيم وزارة الداخلية التي احتكرت كل مراحل العملية الانتخابية بما فيها إعلان النتائج، باستثناء الانتخابات التشريعية والمحلية لسنة 2017 والتي كانت تحت إشراف (وليس تنظيم) قضائي-مدني بعد أن اعتمدت السلطة آنذاك تعديلًا للدستور والقانون العضوي المتعلق بالانتخابات 16-10، والذي استحدثت بموجبه هيئة عليا مستقلة لمراقبة الانتخابات. ترأس الهيئة شخصية وطنية يعينها رئيس الجمهورية، بعد استشارة الأحزاب السياسية. وتتكون الهيئة العليا بشكل متساو من قضاة يقترحهم المجلس الأعلى للقضاء، ويعينهم رئيس الجمهورية، وكفاءات مستقلة يتم اختيارها من ضمن المجتمع المدني، يعينها رئيس الجمهورية(10)

تتولى السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات، وهي سلطة تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال الإداري والمالي إضافة إلى تمتعها بامتداد على المستويين المحلي والخارجي، جميع اختصاصات وصلاحيات وزارة الداخلية، وبعضًا من صلاحيات المجلس الدستوري فيما يتعلق بالتنظيم والإشراف والرقابة في جميع مراحل العملية الانتخابية. تتشكل السلطة المستقلة من مجلس ومكتب ورئيس للسلطة موزعين على مستوى مركزي ومحلي وخارجي عبر مندوبيات ولائية وبلدية وقنصلية. تتضمن هيكلتها مجلسًا مشكلًا من خمسين عضوًا، منهم عشرون عضوًا من كفاءات المجتمع المدني، وعشرة أعضاء من الكفاءات الجامعية، وأربعة قضاة من المحكمة العليا ومجلس الدولة، ومحاميان اثنان، وموثِّقان اثنان، ومحضران قضائيان اثنان، وخمس كفاءات مهنية، وثلاث شخصيات وطنية، وممثلان اثنان عن الجالية الوطنية بالخارج. ويتم اختيار أعضاء مجلس السلطة المستقلة عن طريق الانتخاب من النظراء. ويعد مجلس السلطة المستقلة الهيئة المداولة للسلطة المستقلة، وهو مكتب يتكون من ثمانية أعضاء من بينهم نائبا الرئيس ويساعدان رئيس السلطة المستقلة في أداء مهامه، ورئيس يُنتخب من طرف أعضاء مجلس السلطة بأغلبية الأصوات خلال الاجتماع الأول. يترأس رئيس السلطة المستقلة مجلس ومكتب السلطة وينسق أشغالهما(11). بينما يعتبرها الحراك وأحزاب معارضة أنها هيئات معينة وليست مستقلة، ولا تمتلك القدرات اللازمة للإشراف على الانتخابات، وبأنها ستعتمد على الإدارة للقيام بذلك.

لقد حسب فريق السلطة الفعلية الحاكمة في الجزائر من خلال تلك التدابير من قلب موازين القوة لصالحه إلى حد كبير، فبالرغم من أن الحراك الشعبي السلمي لا يزال مستمرًّا وبنفس الأشكال السابقة إلا أن مستوى التعبئة لديه انخفض بشكل جلي لكامل متابعي الشأن السياسي في الجزائر. لقد تمكنت السلطة الفعلية الحاكمة من إقناع بعض القطاعات من السياسيين والأكاديميين والمواطنين بخارطة طريقها للخروج من الأزمة، والتي عنوانها الأساس: تنظيم انتخابات رئاسية بأسرع وقت والعودة إلى الشرعية الدستورية الانتخابية، وإنهاء مرحلة الفراغ المؤسساتي التي تعرفها الجزائر منذ فشل تنظيم الانتخابات الرئاسية في موعدها الأول، 4 يوليو/تموز 2019 بعد تفعيل المادة 102 من الدستور. في حين يبقى جمهور عريض من الحراك الشعبي السلمي المستمر يرفض تنظيم الانتخابات الرئاسية دون اتخاذ تدابير سياسية ودستورية وتشريعية أكثر عمقًا، والتي تعمل على إحداث القطيعة الحقيقية مع منظومة الحكم السابق وممارساتها. ويأتي على رأس تلك المطالب رحيل كل رموز النظام السابق من شخصيات رسمية تتولى مناصب قيادية في الدولة وشخصيات حزبية يرى أنها شكَّلت سابقًا إحدى الدعائم التي كان يعتمد عليها الرئيس السابق، عبد العزيز بوتفليقة، والتوجه نحو مرحلة انتقالية(12). إلا أن غياب التأطير وعدم وضوح الأطروحات وغياب رؤية موحدة المتعلقة بالخروج من الأزمة السياسية الحادة في البلاد، وتعدد تلك الأطروحات وتنوعها واختلافها في الكثير من الأحيان، حال دون تحقيق نتائج ملموسة من الحراك الشعبي. فمسار المرحلة الانتقالية ومراحلها وأهدافها بات يشكِّل غموضًا لدى مؤيدي السلطة، ويحاججون أن الجزائر جربت مناسبات سابقة للمراحل الانتقالية والفراغ المؤسساتي انعكست سلبًا على مسار بنائها الوطني. ناهيك عن حساسية مواضيع الوحدة الوطنية والتدخلات الأجنبية، والتي تستند عليها الجهات الرسمية لاتخاذ العديد من الإجراءات ذات الطابع الأمني والقضائي لمواجهة أي تهديد يهدد الوحدة الوطنية أو يتيح التدخلات الخارجية في الشأن الداخلي للجزائر.

السباق الرئاسي: وضع جديد بشخصيات وبرامج سابقة

شكَّلت الحملة الانتخابية للسباق الرئاسي في الجزائر، والمستمرة إلى غاية 10 ديسمبر/كانون الأول 2019، وضعًا انتخابيًّا غير مألوف لدى الجزائريين، الذين اعتادوا طيلة العشرين سنة الأخيرة على حملات انتخابية بصيغة الرئيس المترشح/المترشحين الصوريين، على اعتبار أن الرئيس السابق كان يترشح للانتخابات التي ينظمها فريقه الحكومي وتراقبها أحزاب أسياسية داعمة له، وجهات قضائية هو من يعينها ويفصل في نتائجها، ومجلس دستوري هو من عيَّن رئيسه، فهو ومعظم الجزائريين كانوا يعلمون أنه الفائز بالسباق الرئاسي قبل إعلان نتائجه الرسمية بمن فيهم المترشحون الذين تتعدد دوافع ترشحهم ولكنهم يشتركون في علمهم بنتائجها لصالح الرئيس المترشح مسبقًا. لقد شكَّل السباق الرئاسي الراهن في الجزائر وضعًا جديدًا يظهر من خلال المنظومة التشريعية التي تنظمه (القانونين 19-07/19-08) والتي أبعدت وزارة الداخلية وبيروقراطيتها المحلية (الولاة ورؤساء الدوائر) عن تنظيم الانتخابات، ويظهر الوضع جديدًا كلية من خلال عدم ترشح الرئيس للانتخابات وبالتالي غياب لكل المظاهر التي اعتاد عليها الجزائريون في مثل هذه المناسبات، ومنها اللجان المدنية لمساندة الرئيس المترشح والبيانات الحزبية والشخصية لأحزاب سياسية وشخصيات بارزة تتسابق نحو مساندته. ويظهر الوضع جديدًا كذلك في خطابات المؤسسة العسكرية التي قررت مرافقة المسار السلمي للانتخابات الرئاسية دون التوجه نحو مساندة مترشح على حساب المترشحين الآخرين. لقد عبَّر رئيس هيئة الأركان بكل وضوح أنه يفضِّل ويدعو إلى مشاركة قوية في الانتخابات من طرف الجزائريين ولكنه لا يدعم أي طرف مترشح على حساب الآخرين، كما جرت العادة من قبل. وهنا، ينبغي تبيين بُعدين اثنين:

أولًا: هل الانتخابات قطيعة مع ممارسات سابقة أم استمرارية لها؟

تلك القطيعة النسبية مع الممارسات السابقة والتي تتجلى في هذا الوضع الجديد لم تستمر طويلًا، فلقد شكَّل إعلان المجلس الدستوري عن قائمة الأسماء المترشحة بعد دراسة ملفات المترشحين من طرف السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات صدمة لدى العديد من المتفائلين بالمسار الانتخابي الطبيعي. فالشخصيات الخمس التي أَعلنت رسميًّا ترشحها لا تعبِّر عن تلك القطيعة على اعتبار أنهم يعبِّرون بطريقة أو بأخرى عن الفترة السابقة. فالمترشح، علي بن فليس، هو الأمين العام السابق لحزب جبهة التحرير الوطني، وهو حزب السلطة الذي ساند الرئيس السابق، عبد العزيز بوتفليقة، في كل المواعيد الانتخابية وشكل مع أحزاب متحالفة أخرى كل الحكومات المتعاقبة طيلة عشرين سنة من الحكم، والذي سبق له أن شغل منصب مدير الحملة الانتخابية للرئيس السابق، عبد العزيز بوتفليقة (سنة 1999)، ثم رئيس الحكومة ما بين سنتي 2002 و2003. وهو الأمر نفسه تقريبًا مع المترشح الآخر، عبد المجيد تبون، عضو اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني، والذي شغل عدة مناصب وزارية قبل سنة 2017 ضمن الأطقم الحكومية للرئيس السابق، قبل أن يعينه هذا الأخير في منصب رئيس الوزراء سنة 2017. وكذلك الأمر بالنسبة لعز الدين ميهوبي من حزب التجمع الوطني الديمقراطي، أحد أبرز الأحزاب السياسية المساندة في كل المواعيد الانتخابية للرئيس السابق، والذي استوزره الرئيس بوتفليقة في منصب وزير الثقافة في الفترة ما بين 2015 إلى 2019. أما عبد العزيز بلعيد، ورغم أنه لم يشارك في الحكومات السابقة بصفته الشخصية أو الحزبية، إلا أنه ناضل لسنوات عديدة في صفوف حزب جبهة التحرير الوطني، وانتُخب نائبًا بالبرلمان باسم الحزب لعهدتين 1997-2002 ثم 2002-2007 قبل أن ينشق عن حزب جبهة التحرير الوطني ويؤسس حزب المستقبل منذ فبراير/شباط 2012. ويشكِّل عبد القادر بن قرينة استثناء جزئيًّا عن القاعدة حيث لم يكن ضمن الحكومات التي شكلها بوتفليقة منذ 1999 ولكنه في المقابل انتُخب نائبًا في البرلمان منذ 1997 تحت مظلة حركة مجتمع السلم، وهي تشكيلة سياسية ذات توجهات إسلامية دعمت الرئيس السابق، عبد العزيز بوتفليقة، منذ سنة 1999 ضمن تحالف حكومي ثم تحالف رئاسي، قبل أن ينشق عن الحركة ويؤسس مع قيادات أخرى حركة البناء الوطني التي يترأسها منذ سنة 2018. عزز هذا الحدث الشكوك لدى العديد من الجزائريين حول حقيقة نوايا السلطة الفعلية الحاكمة في تنظيم انتخابات شفافة ونزيهة والانتقال حقيقة إلى جمهورية جديدة هي أمل كل الجزائريين تقريبًا(13).

شهدت الحملة الانتخابية حراكًا انتخابيًّا -إذا صحَّ التعبير- كما يشهده الحراك الشعبي ولكنه بمستويات أقل. لقد تمكن المترشحون الخمسة من تنشيط عدة تجمعات رغم ما عرفته بعض التجمعات من أعمال عنف محدودة لإعاقة المسار الطبيعي للحملات الانتخابية.

ثانيًا: مترشحون بأوزان متباينة بطموحات كبيرة

عبد المجيد تبون: مرشح "أفلاني" دون حزب "الأفلان"

تمكن المترشح، عبد المجيد تبون، في الأيام الأولى من الحملة الانتخابية من استمالة العديد من التشكيلات السياسية والحزبية، منها حزب التجديد الجزائري وحركة الإصلاح الوطني والعديد من الشخصيات السياسية ومنظمات المجتمع المدني لصالحه، كونه يتمتع بنقاط قوة أبرزها قربه من المؤسسة العسكرية وقائد الجيش، الفريق أحمد قايد صالح(14)، رغم تأكيد هذا الأخير في العديد من المناسبات حيادية الجيش وأنه يقف على مسافة متساوية بين جميع المترشحين، وتأكيده كذلك على مرافقة الجيش للمسار الدستوري والانتخابي السلمي الطبيعي باعتباره المخرجَ الوحيدَ للأزمة السياسية، ولا يرافق أي مترشح على حساب المترشحين الآخرين. ومن نقاط قوة المترشح، عبد المجيد تبون، كذلك الصورة النمطية التي يروج لها باعتباره أول ضحايا منظومة الحكم السابق، بعد أن تمت تنحيته من منصب الوزير الأول التي لم يمكث فيها أكثر من 80 يومًا بسبب إجراءات اتخذها لمحاربة الأوليغارشية المالية وإعلانه الحرب على الفساد، ودخوله في مواجهة مع رجال الأعمال المقرَّبين من شقيق الرئيس السابق وهم محل متابعة قضائية في الوقت الراهن. كما أن أداءه كوزير للسكن في الفريق الحكومي السابق انعكس إيجابيًّا على صورته كمرشح في السباق الرئاسي. إلا أن مشاركته في الأطقم الحكومية للرئيس السابق وخطاباته السابقة لصالح بقاء الرئيس، بوتفليقة، في الحكم وارتباط أفراد من عائلته بقضايا فساد منها قضية ابنه ضمن ما أضحى يُعرف في الجزائر "بقضية البوشي"، وهي قضية توريد كميات كبيرة من المخدرات من أمريكا الجنوية، وورود اسمه ضمن مجموعة الوزراء المشتبه بتورطهم في قضية بنك الخليفة، شكلت نقاط ضعف حقيقية في حملته الانتخابية. إلا أن اللافت في ذلك هو عدم مساندة حزب جبهة التحرير الوطني بشكل صريح وعلني للمترشح، عبد المجيد تبون، الذي يشغل عضوية اللجنة المركزية للحزب، وهو الأمر الذي تُرجعه أطراف إلى أن تبون يعتزم حل البرلمان الذي يعتبر أنه لا يحوز الشرعية الكافية؛ لكونه انتُخب في ظروف غير نزيهة. وهو البرلمان الذي يسيطر عليه حزبا جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي وهو ما يفسر توجه العديد من قيادات حزب جبهة التحرير الوطني نحو مساندة غريمهم التقليدي مرشح حزب التجمع الوطني الديمقراطي، عز الدين ميهوبي.

علي بن فليس: برنامج طموح: منافسة بدون بوتفليقة

تقلصت حظوظ المترشح، تبون، في الوصول إلى "كرسي المرادية" في الأيام الأخيرة من الحملة الانتخابية، وبات يعاني من نزيف حقيقي من مسانديه بمن فيهم المقربون منه نحو مترشحين آخرين، في الوقت الذي ارتفعت فيه أسهم المترشح، علي بن فليس، رئيس حزب طلائع الحريات، الذي يبدو أنه استفاد كثيرًا من تجربته السابقة في معارضة الرئيس، عبد العزيز بوتفليقة، منذ سنة 2004. يستند ابن فليس إضافة إلى ذلك على دعم حزبي كبير من طرف قواعده الحزبية التي يشكل فيها عنصر الشباب الجامعي تيارًا واسعًا، والتي عمل على تنظيمها لأكثر من عقد من الزمن. إضافة إلى دعم تشكيلات سياسية أخرى له، منها: حزب العدل والبيان، وحزب الفجر الجديد، وحركة النهضة، وجبهة الجزائر الجديدة، وشخصيات سياسية بارزة منها مترشحون سابقون منهم سليمان بخليلي(15). ويعتبر مسار المترشح، علي بن فليس، منذ سنة 2004 والعلاقة العدائية بينه وبين الرئيس السابق، بوتفليقة، بعضَ أبرز نقاط قوته. كما أن خبرته في تسيير الشؤون العامة وخلفيته الحقوقية مكَّنته من إقناع الكثير من المتتبعين بلغته الفصحى الصريحة الواضحة والبسيطة. إضافة إلى ذلك يسوق ابن فليس برنامج انتخابيًّا اعتبره برنامجًا وطنيًّا استعجاليًّا للانتقال الشامل يتقاطع في العديد من تفاصيله مع المطالب العميقة للحراك الشعبي، خاصة بدعوته إلى حل المؤسسات المنتخبة سابقًا وبناء شرعية جديدة وفق نظام حكم جديد يُحدث القطيعة الحقيقية مع المرحلة الفارطة.

عز الدين ميهوبي: طموح التركة السياسية الكبيرة واستثمار في الدولة العميقة

يجد المترشح عن حزب التجمع الوطني الديمقراطي نفسه مقيدًا جدًّا من عدة جوانب تشكِّل ضعفه البيِّن في السباق الرئاسي، فهو إلى جانب ترشحه الصريح باسم حزب بقي يساند الرئيس بوتفليقة إلى آخر دقيقة من حكمه يحمل تبعات سلفه على رأس الأمانة العامة لحزب التجمع الوطني الديمقراطي، أحمد أويحيى، الموجود رهن الاعتقال المؤقت بخصوص قضايا فساد كثيرة، والذي تُبث محاكمته مباشرة عبر عدة منصات إعلامية. كما أن استيزاره لأربع سنوات كاملة على رأس وزارة الثقافة (2015 -2019) ضمن حكومة الرئيس السابق وأدائه المثير للجدل إلى حدٍّ ما فيها شكَّلا عبئًا ثقيلًا في إقناع الجماهير الناخبة بشخصه وبرنامجه، إلا أن اعتماده على قاعدة حزبية منظمة وملتزمة إلى حد كبير مَثَّلَ أحدَ أركان قوته خاصة أنه الوحيد من بين المترشحين الذي أقرَّ صراحة بأنه لن يقدم على حل البرلمان في حال وصوله إلى كرسي الرئاسة، وهو ما مكَّنه من جلب العديد من المساندين وعائلاتهم، وكذا العديد من المنظمات الجماهيرية التي تراجعت مؤخرًا عن مساندة المترشح، عبد المجيد تبون(16). كما أن ميهوبي بات يتمتع بدعم كبير من مكونات الدولة العميقة التي تعتبره أكثر المترشحين ضمانًا لبقاء الوضع القائم. علاوة على خلفيته المحافظة وصورته كمثقف يكتب الشعر والرواية.

عبد القادر بن قرينة: مترشح بتوجهات إسلامية دون دعم الحركات الإسلامية

يمثِّل امتناع التيار الإسلامي بتشكيلاته السياسية والحزبية في الجزائر عن دعم المترشح، ابن قرينة، رئيس حركة البناء الوطني ذات التوجهات الإسلامية، نقطةَ ضعف كبيرة في سباقه نحو قصر المرادية الرئاسي. ويُرجع العديد من القراءات سبب ذلك إلى طبيعة مساره وعلاقته بالحركات السياسية الإسلامية المعتدلة في الجزائر منذ نهاية التسعينات، والتي تتميز بالتوتر الشديد لكونه انشق عن الحركة الأم "حركة مجتمع السلم"، سنة 2008، ليؤسس مع قيادات أخرى "جبهة التغيير" والتي انشق عنها كذلك ليؤسس "حركة البناء الوطني" سنة 2017. رغم أن ابن قرينة، وتحت مظلة حركة البناء الوطني، تجمعه تحالفات انتخابية وبرلمانية سابقة مع أحزاب سياسية ذات توجهات إسلامية، هي: "جبهة العدالة والبناء" و"حركة النهضة"، هذه الأخيرة التي فضَّلت مع جبهة الجزائر الجديدة (حزب سياسي ذو ميول إسلامية بقيادة جمال بن عبد السلام) دعم المترشح الآخر، علي بن فليس، في حين امتنعت كل من حركة مجتمع السلم بقيادة عبد الرزاق مقري وجبهة العدالة والتنمية بقيادة عبد الله جاب الله، عن الترشح أو تقديم الدعم لأي مترشح في انتخابات 12 ديسمبر/كانون الأول هذه. أما ما تعلق بشريحة عريضة من الإسلاميين المنتمين تقليديًّا إلى الجبهة الإسلامية للإنقاذ سابقًا (حزب سياسي محظور منذ سنة 1992) فهي محل انقسامات داخلية ما بين قيادات عبَّرت صراحة عن قبولها بالمسار الانتخابي الرئاسي الجديد، منهم: علي جدي وكمال قمازي، دون تحديد الجهة التي سيدعمانها في الاستحقاق الرئاسي القادم، وبين قيادات أخرى رافضة للمسار الانتخابي منذ توقيفه سنة 1992. إلا أن المترشح، ابن قرينة، سيستفيد من نقاط قوة أخرى ترفع من أسهمه في السباق الرئاسي، منها على وجه الخصوص المنطقة الجغرافية التي ينحدر منها ابن قرينة، وهي ولاية ورقلة في الجنوب الجزائري، وذلك ما يجعله المترشح الوحيد منها، كما أن وضوح مواقفه تجاه الحراك الشعبي وخاصة فئة الشباب منه جعلته يقنع الكثيرين بأنه الأقرب إلى أطروحات الحراكيين مقارنة بباقي المترشحين.

عبد العزيز بلعيد: طموح سياسي بحاجة إلى دعائم أخرى

هو أصغر المترشحين سنًّا من جيل الاستقلال (لم يشارك أو يعاصر الاستعمار الفرنسي للجزائر فهو مولود سنة 1963)، كما أنه متعلم وذو شهادات جامعية (دكتوراه في الطب وشهادة الكفاءة المهنية للمحاماة)، وهو مناضل سياسي ورئيس حزب جبهة المستقبل منذ سنة 2012، ولكنه في المقابل لم يتقلد أية مسؤوليات سياسية أو غير سياسية مع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة منذ سنة 2004. تلك هي نقاط قوة المرشح عبد العزيز بلعيد في الانتخابات الرئاسية ليوم 12 ديسمبر/كانون الأول 2019. إلا أن اعتماده على قواعد حزبه فقط، وهو الحزب الذي يوصف بالحزب غير القوي مقارنة بالأحزاب السياسية التقليدية، يشكِّل نقطة ضعف كبيرة بالنسبة له، ثم إن انحداره من ولاية باتنة، وهي نفس ولاية مسقط رأس المترشح الأخر علي بن فليس، يجعل من اعتماده على معطى الجهة الجغرافية (منطقة الأوراس والهضاب العليا) ضئيلًا جدًّا، إضافة إلى أن الغموض الكبير في مواقفه تجاه مطالب الحَراك الشعبي وسبل تحقيقها وفق برنامج متكامل يحول دون تحقيق المترشح عبد العزيز بلعيد لطموحه منذ سنة 2014 بالوصول إلى كرسي الرئاسة.

ثالثًا: برامج متنافسة بمضامين متماثلة

يشترك جميع المترشحين في السباق الرئاسي، 12 ديسمبر/كانون الأول 2019، في تشخيص الوضع الراهن في الجزائر والموروث عن منظومة الحكم السابق والذي يصفونه عمومًا من خلال النقاط التالية:

- نظام سياسي رئاسي أسَّس لحكم الفرد المطلق ممثلًا في الرئيس السابق، عبد العزيز بوتفليقة.

- وضع سياسي حزبي هش نتج عن تدخل أجهزة الدولة في رسم معالمه ومتحكَّم فيه من طرف المال الفاسد.

- وضع اقتصادي ريعي تبعي كارثي غير مهيكل تسيطر عليه مستويات من الفساد المالي. 

- سياسات عمومية حكومية استهلكت موارد مالية كبيرة طيلة عشرين عامًا من الحكم دون إيجاد الحلول المناسبة والمستدامة للجزائريين خاصة ما تعلق بمحاربة البطالة والفقر.

- شرعية الحراك الشعبي السلمي في أسابيعه الأولى ومشروعية مطالبه.

- التدخل المناسب للجيش بقيادة الفريق، أحمد قايد صالح، وانحيازه ومرافقته السلمية لمطالب الحراك الشعبي السلمي في إطار من الحفاظ على المصلحة العليا للبلد.

- ارتياح كبير للإجراءات والتدابير السياسية التي اتخذتها الجهات الرسمية بغية تنظيم استحقاق رئاسي نظيف شفاف ونزيه، خاصة ما تعلق باستحداث السلطة الوطنية للانتخابات، وتجريد وزارة الداخلية كلية من تنظيم جميع مراحل العلمية الانتخابية.

كما يشترك المترشحون على العموم في العديد من الحلول التي يقترحونها للخروج من الأزمة السياسية الحادة، وتظهر تلك النقاط جلية في البرامج الانتخابية للمترشحين في شقها السياسي، نذكر منها:

- التوافق على مراجعة عميقة للدستور تؤسس للقطيعة مع المرحلة السابقة والانتقال إلى بناء ديمقراطي حقيقي في إطار "جمهورية جديدة".

- التوافق على مراجعة جميع القوانين الناظمة للتنافس السياسي والانتخابي، منها على وجه الخصوص: قانون الأحزاب السياسية وقانون الانتخابات وقانون الإعلام، مع الاحتفاظ بالإجراءات المتعلقة بالسلطة الوطنية المستقلة للانتخابات وتدعيمها بإمكانيات أكبر.

- تعزيز استقلالية القضاء عن هيمنة السلطة التنفيذية وتنمية الحريات العامة الجماعية والفردية.

- التوافق حول فتح حوار مجتمعي شامل يجمع الفاعلين السياسيين والمدنيين حول القضايا المذكورة آنفًا.

خاتمة

في ضوء المعطيات السابقة، بات من الصعب جدًّا التكهن بنتيجة الانتخابات، على عكس المناسبات الانتخابية السابقة التي كان الحسم فيها واضحًا لصالح الرئيس المترشح، عبد العزيز بوتفليقة، حتى قبل إعلان النتائج. إلا أن سيناريو التنافس الشديد بين المترشح، علي بن فليس، والمترشح، عبد المجيد تبون، ووزن كل واحد منهما يبقى هو الأقربَ إلى التجسيد واقعيًّا، دون استبعاد احتمال أن يحقق ميهوبي اختراقا نظرا للاعتبارات التي تطرقنا إليها سابقا، كما أن التوجه إلى دور ثان يعد احتمالًا واردًا جدًّا.

يعتبر تحدي المشاركة الانتخابية أكبر التحديات بالنسبة للجهات الرسمية، فبالرغم من كل تلك التدابير السياسية والقضائية التي اعتمدتها الجهات الرسمية منذ شهر سبتمبر/أيلول 2019، كاستجابة لمطالب الحراك الشعبي السلمي من جهة، ومخرجات هيئة الحوار والوساطة من جهة أخرى، وبالرغم من نجاح العديد من المترشحين للموعد الرئاسي القادم في التعبئة الجماهيرية أثناء الحملة الانتخابية، إلا أن نسبة المشاركة الانتخابية في موعد 12 ديسمبر/كانون الأول 2019 تبقى هاجسَ الجهات الرسمية، التي أضحت تعبِّر في كل مناسبة عن ضرورة التوجه نحو صناديق الانتخاب والمشاركة بقوة في هذا الموعد الفاصل. خاصة أن أصوات مقاطعة الانتخابات تستمر في الدعوة إلى ذلك معتبرة أنها استمرار لممارسات سابقة. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* بلغيث عبد الله، أستاذ العلوم السياسية بجامعة مستغانم/ الجزائر.

ABOUT THE AUTHOR

References

(1) انظر: المواد من 84 إلى 93 من دستور الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية دستور معدل بموجب القانون رقم 16-01، موقع الجريدة الرسمية الجزائرية، (تم التصفح في 8 ديسمبر/كانون الأول 2019):https://www.joradp.dz/har/consti.htm

(2) فيما يتعلق بالمقترح الذي قدمه الرئيس السابق، بوتفليقة، انظر: الرئاسة الجزائرية تعلن عدم ترشح بوتفليقة وتأجيل الانتخابات، موقع الجزيرة نت، 11 مارس/آذار 2019، (تم التصفح في 6 ديسمبر/كانون الأول 2019): https://bit.ly/38pZcwU

(3) انظر: الحراك الشعبي: آلاف المواطنين يجددون مطلب التغيير الجذري لنظام الحكم، موقع وكالة الأنباء الجزائرية، 26 يوليو/تموز 2019، (تم التصفح في 7 ديسمبر/كانون الأول 2019): http://www.aps.dz/ar/algerie/74436-2019-07-26-17-00-34

(4) المتظاهرون عبر الولايات يتمسكون بالمطالب لن نرضخ.. ومصرُّون على التغيير، جريدة الشروق اليومي، الجزائر، 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، (تم التصفح في 8 ديسمبر/كانون الأول 2019): https://bit.ly/2RDmoBG

(5) انظر: الدعوة إلى مرحلة انتقالية توافقية، ورفض إقحام العسكر في الصراع، جريدة الشروق اليومي، الجزائر، 31 مايو/أيار 2019، (تم التصفح في 7 ديسمبر/كانون الأول 2019): https://bit.ly/345Sgl1

(6) انظر: الفريق قايد صالح يشدِّد على أن الانتخابات الرئاسية ستجري في تاريخها المحدد، وكالة الأنباء الجزائرية، 30 أكتوبر/تشرين الأول 2019، (تم التصفح في 6 ديسمبر/كانون الأول 2019): http://www.aps.dz/ar/algerie/78825-2019-10-30-12-21-02

(7) انظر: الهيئة الوطنية للحوار والوساطة تكشف عن خطة عملها للمرحلة المقبلة، وكالة الأنباء الجزائرية، 28 يوليو/تموز 2019، (تم التصفح في 5 ديسمبر/كانون الأول 2019): http://www.aps.dz/

(8) انظر: كريم يونس يقدم لرئيس الدولة التقرير النهائي حول مسار الحوار والوساطة، وكالة الأنباء الجزائرية، 8 سبتمبر/أيلول 2019، (تم التصفح في 8 ديسمبر/كانون الأول 2019): http://www.aps.dz/ar/algerie/74508-2019-07-28-15-32-41

(9) زغماتي: الوزراء المتهمون سيحاكمون في المحاكم العادية، جريدة الخبر، 1 ديسمبر/كانون الأول 2019، (تم التصفح في 6 ديسمبر/كانون الأول 2019): https://bit.ly/36lbG6Y

(10) المصدر: المادة 194 من دستور معدل وفق القانون 16-01، مرجع سبق ذكره.

(11) للاطلاع على كل التفاصيل حول السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات، يمكن الرجوع إلى نص القانون العضوي رقم 19-07 المؤرخ بـ 14 سبتمبر/أيلول 2019 المتعلق بالسلطة الوطنية المستقلة للانتخابات. موقع السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات، صفحة القوانين العضوية، (تم التصفح في 7 ديسمبر/كانون الأول 2019): https://bit.ly/2LCjY2E

(12) 5 مترشحين في مهمة ميدانية صعبة، جريدة الخبر، 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، (تم التصفح في 6 ديسمبر/كانون الأول 2019): https://bit.ly/34751f2

(13) بالتفاصيل.. هؤلاء هم المترشحون الخمسة لرئاسيات ديسمبر 2019، جريدة النهار، 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، (تم التصفح في 8 ديسمبر/كانون الأول 2019): https://bit.ly/2sdsD4q

(14) ترشح تبون للرئاسة: انتقام أم استكمال مهمة التطهير؟ جريدة الخبر، 28 سبتمبر/أيلول 2019، (تم التصفح في 6 ديسمبر/كانون الأول 2019): https://bit.ly/344K8Bl

(15) من بينهم وزير سابق.. أحزاب وشخصيات سياسية تدعم علي بن فليس، جريدة النهار، 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، (تم التصفح في 8 ديسمبر/كانون الأول 2019): https://bit.ly/2YzCspN

(16) رغم وجود مرشح عضو في لجنته المركزية سابقة.. الأفلان يدعم مرشح الحزب الغريم!، جريدة الشروق اليومي، 6 ديسمبر/كانون الأول 2019، (تم التصفح في 6 ديسمبر/كانون الأول 2019): https://bit.ly/2P7raWu