تربط الدراسة أسباب الثورة الشعبية التي اندلعت ضد نظام الإنقاذ (1989-2019)، الذي جاء إلى سدة الحكم عن طريق انقلاب عسكري، في 30 يونيو/حزيران 1989، بتركيبة النظام وتناقضاتها الداخلية، وبتصاعد نفوذ القوى المعارضة له وتصدُّع قاعدته السياسية، فضلًا عن تدهور الأوضاع الاقتصادية الناجمة عن سياساته العامة في إدارة الاقتصاد واتساع دائرة الفساد في أوساط رموز النظام وسدنته. فكريًّا، رفع النظام شعار أَسْلَمَة الدولة والمجتمع (المشروع الحضاري)، وسياسيًّا، وظَّف المنتمين إليه في الوظائف المفتاحية في الدولة لتنفيذ مشروعه الحضاري على حساب الكفاءات الوطنية التي أُحيلت للصالح العام.
ولذلك، واجهت النظام منذ أيامه الأولى معارضة سياسية، قادتها الأحزاب والكيانات المناهضة للانقلاب وتوجهاته الإسلامية، كما واجه النظام تحديات عسكرية، تمثَّلت في المحاولة الانقلابية الفاشلة التي حدثت في أبريل/نيسان 1990، ثم معارضة الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق التي حاربت النظام لسنوات، ثم دخلت معه في مفاوضات طويلة، أفضت إلى اتفاقية السلام الشامل لسنة 2005، التي مهَّدت الطريق لانفصال جنوب السودان عام 2011، وظهرت بعد عام 2002 حركات الكفاح المسلحة في دارفور ضد الحكومة المركزية في الخرطوم وقِسْمَتِها غير العادلة للسلطة والثروة. وإلى جانب هذه المعارضة الفكرية والسياسية والعسكرية، واجه النظام تصدعًا من الداخل، تمثَّل في المفاصلة السياسية بين قادة النظام وعرَّابه الفكري، حسن الترابي، عام 1999، والذي لَفَظَ النظام، وكوَّن حزبًا سياسيًّا معارضًا باسم المؤتمر الشعبي عام 2000. وبعد عقد ونيف من المفاصلة التي أثَّرت في بنية النظام الفكرية والسياسية، واجه النظام محاولة انقلابية فاشلة ثانية، عام 2012، بقيادة العميد محمد إبراهيم عبد الجليل (ود إبراهيم)، الذي كان يُعَدُّ من خلصاء النظام وأنصاره المجاهدين.
وفي تلك الأثناء، ظهرت داخل أروقة النظام حركة إصلاحية، تبنَّتها مجموعة "سائحون" الشبابية، ومجموعة من نواب الهيئة البرلمانية الحاكمة بقيادة غازي صلاح الدين، ومجموعة من أساتذة الجامعات الإسلاميين بقيادة محمد سعيد خليفة، مدير جامعة الزعيم الأزهري، لكنها لم تجد قبولًا وآذانًا مصغية من القيادة السياسية لحكومة الإنقاذ، والدليل على ذلك انشقاق غازي صلاح الدين وبعض الإصلاحيين من حزب المؤتمر الوطني الحاكم آنذاك، وتكوين "حركة الإصلاح الآن". وإلى جانب هذه التصدعات الداخلية، واجه النظام أزمة اقتصادية بعد استقلال الجنوب 2011؛ لأن 70% من إيرادات الموازنة المركزية الناتجة من الموارد البترولية قد ذهبت إلى دولة جنوب السودان؛ حيث توجد حقول النفط الرئيسة.
وأدت الأزمة الاقتصادية بدورها إلى اندلاع انتفاضة سبتمبر/أيلول 2013، التي قمعتها الأجهزة الأمنية بقوة مفرطة، راح ضحيتها أكثر من مئتي قتيل وعدد من الجرحى؛ وبذلك نجحت الحكومة في إخماد الانتفاضة مرحليًّا، لكنها فشلت في تقديم حلول جذرية ناجعة للأزمة الاقتصادية المتصاعدة، والتي بلغت ذروتها عام 2018؛ حيث تصاعد سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الجنيه السوداني إلى نحو سبعين جنيهًا، وواجهت البلاد نقصًا حادًّا في العملات المحلية، والنقد الأجنبي، والمواد البترولية، وارتفعت أسعار السلع الضرورية بمتوالية هندسية في الأسواق، وأضحى المزاج العام مهيَّأ للثورة ضد النظام الحاكم.
وفي ظل تلك الظروف الاقتصادية الحرجة، انفجرت الثورة في بعض الولايات الطرفية، في ديسمبر/كانون الأول 2018، مناديةً بإصلاح الوضع الاقتصادي وتحسين ظروف الناس المعيشية، ثم انتقلت إلى العاصمة الخرطوم، ومنها انتشرت أفقيًّا في معظم بقاع السودان، ورأسيًّا في أوساط قطاعات المجتمع المختلفة. وإلى جانب مطالبها الاقتصادية اصطحبت الثورة الشعبية معها أجندة سياسية، تنادي بتنحي النظام الحاكم دون شرط أو قيد (تسقط بس)، كما أنها حافظت على سلميتها وانتشارها الجماهيري الواسع لمدة أربعة أشهر في مواجهة أجهزة النظام القمعية. وبلغت المواجهة ذروتها بعد أن أعلن الثوارُ الاعتصامَ أمام مباني القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة بالخرطوم، في 6 أبريل/نيسان 2019، وبذلك أضحى النظام أمام خيارين لا ثالث لهما، إما تفريغ المعتصمين أمام القيادة العامة بالقوة العسكرية بغضِّ النظر عن الخسارة البشرية المتوقعة، أو أن يتنحى النظام ويُسلِّم السلطة لقيادة الثورة الشعبية. وفي هذه اللحظة المفصلية أعلنت اللجنة الأمنية العليا الانقلابَ على رأس النظام ورموزه، في 11 أبريل/نيسان 2019، والانحيازَ إلى ثورة الجماهير.
بهذه الخطوة، مهَّد العسكريون الطريق إلى انتقال ديمقراطي، إلا أن عملية الانتقال لم تأت من أسفل إلى أعلى؛ لأن الثورة لم تستطع إسقاط النظام إسقاطًا كليًّا، بل أسقطته جزئيًّا بتدخل اللجنة الأمنية العليا. وعند هذا المنعطف، بدأت عملية التفاوض بين قيادة الثوار، الممثلة في قوى إعلان الحرية والتغيير (قحت)، وقيادة القوات النظامية بفصائلها المتعددة (القوات المسلحة، والدعم السريع، والشرطة، والأمن الوطني)، وأخيرًا أفضت المفاوضات بين الطرفين -والتي مرت بمنعرجات سياسية خطيرة- إلى تشكيل حكومة انتقالية من مجلس سيادة هجين، في أغسطس/آب-سبتمبر/أيلول 2019، برئاسة عسكرية، وعضوية مدنية (6 أعضاء) وعسكرية (5 أعضاء)، ومجلس وزراء مدني، ومجلس تشريعي لم يُشكَّل بعد. ورسمت الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لسنة 2019 خارطة طريق لمهام الفترة الانتقالية (2019-2022)، التي حصرت مهامها الرئيسة في إحلال السلام المستدام الشامل في المناطق المتأثرة بالحروب الأهلية في السودان، ومعالجة الوضع الاقتصادي المنهار، وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، ووضع الإطار الدستوري والقانوني لعملية التحول الديمقراطي.
في ضوء هذه التوطئة، تحاول الدراسة أن تضع إطارًا نظريًّا لتحليل التحديات التي تواجه الحكومة الانتقالية في السودان (2019-2022)، والمقترحات التي يمكن أن تساعدها في تجاوز هذه التحديات، وطرح بعض التقديرات الإيجابية التي قد تُسهم في توجيه مسار الانتقال الديمقراطي المرحلي صوب التحوُّل الديمقراطي المستدام. وقبل مناقشة هذه التحديات والمقترحات المصاحبة لها تُقدِّم الدراسة عرضًا تحليليًّا للتجارب الانتقالية في السودان، للوقوف على إنجازاتها وإخفاقاتها، وكيفية توظيفها بشكل إيجابي للعبور بالفترة الانتقالية الحالية إلى مرحلة ترسيخ الديمقراطية واستدامتها.
الانتقال الديمقراطي (2019-2022): المعوقات والتحديات
في سياق الإجابة عن سؤال محوري تطرحه الدراسة: هل الحكومة الانتقالية الحالية قادرة على الانتقال من مرحلة الثورة إلى مرحلة وضع السياسات الهادفة إلى إحداث قطيعة مع إرث الأنظمة الاستبدادية السابقة وتمكين ثقافة الانتقال الديمقراطي؟ أم أن النخبة الانتقالية الحاكمة ستعيد إنتاج أخطاء التجارب الانتقالية السابقة دون تجاوزها؟ وإذا كانت الإجابة سالبة، فما العوائق التي تعترض سبيل تنفيذ برنامج الثورة الذي تمَّ صَوْغُ خطوطه العامة في الاتفاق السياسي والوثيقة الدستورية المجازة في 17 أغسطس/آب 2019؟ يرى الباحثان الدكتور أحمد إبراهيم أبوشوك والدكتور صلاح الدين الزين محمد أن ثمة عددًا من العوائق التي تقف في طريق الفترة الانتقالية الخامسة (2019-2022)، وتتجسَّد في ضعف بنية الدولة السودانية نفسها، وغياب الرؤية الوطنية الجامعة التي يمكن أن تُشعر كل الفاعلين السياسيين بأنهم شركاء في إنجاح الفترة الانتقالية، والتركيبة البنيوية غير المتجانسة لقوى الحرية والتغيير التي تمثِّل القيادة الثورية للفترة الانتقالية، فضلًا عن المهددات الإقليمية التي تواجه عملية الانتقال الديمقراطي.
وتفترض الدراسة أن ضعف بنية الدولة السودانية مرتبط بنشأتها الأولى في عهد الحكم التركي-المصري (1821- 1881)، ثم الحكم الإنجليزي-المصري (1898- 1956)، الذي وضع لبنات هيكلها الوظيفي لتطوير مواردها الطبيعية والبشرية لخدمة أولويات المستعمر الإمبريالية، دون النظر في ترسيخ قيم الوحدة الوطنية وتنمية قدراتها الاقتصادية والاجتماعية. ولذلك ظهرت الدولة الوطنية كوريث شرعي لدولة المستعمر؛ حيث حملت معها جينات النشوء المتمثلة في عدم التجانس الجغرافي، والتاريخي، والثقافي، والاجتماعي، فضلًا عن ضعف آليات الاندماج الوطني أو بناء الوحدة الوطنية، وغياب الرؤية الاستراتيجية الشاملة لتوظيف موارد الدولة الطبيعية والبشرية في خدمة متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية المتكافئة. وفي عهد نظام الإنقاذ (1989-2019) تراكم هذا الضعف بخلق مؤسسات مدنية وعسكرية موازية لمؤسسات الدولة الوطنية، ثم توظيف أصحاب الولاء الحزبي (حزب المؤتمر الوطني الحاكم) في الوظائف العامة على حساب الكفاءات المهنية التي لم تكن على توافق مع نظام الإنقاذ الانقلابي. ونتج عن ذلك انهيار شبه كامل في أداء الدولة الوظيفي؛ حيث أصبحت الحكومة المركزية غير قادرة على بسط سلطانها الأمني ونظامها العام داخل حدود الدولة السياسية؛ لأن الحركات المسلحة المعارضة قد بسطت نفوذها في بعض الولايات الطرفية. ويضاف إلى ذلك، عجز الحكومة المركزية عن تقديم الخدمات الاجتماعية الأساسية لمواطنيها، وفشلها في إدارة التنوع الثقافي والاجتماعي والديني، وكذلك ضعف سياساتها العامة في تحقيق التنمية المتكافئة بين ولاياتها النيلية والطرفية.
ومن هذه الزاوية، تُعَدُّ عملية إصلاح الدولة من أهم أولويات الفترة الانتقالية والتحديات التي تواجهها؛ لأن فاعلية الدولة مرتبطة ارتباطًا عضويًّا بتحقيق متطلبات الانتقال الديمقراطي. ولذلك يلاحظ أن الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لسنة 2019 قد نصَّت على ضرورة إصلاح مؤسسات الدولة في أكثر من مرفق حيوي. لكن الأسئلة المحورية التي تظل هاجسًا في أذهان صاغة القرار السياسي والإداري في الحكومة الانتقالية تتمثَّل في الآتي: من أين تبدأ عملية الإصلاح؟ وكيف تبدأ؟ وما القطاعات المستهدفة بالإصلاح؟ وهل يبدأ الإصلاح باستبعاد الكوادر البشرية التي وظَّفها النظام المباد في عهده التمكيني، أم بإصلاح السياسات العامة التي يمكن أن تستوعب الكفاءات البشرية بغضِّ النظر عن انتماءاتها السياسية؟ والتحدي الآخر يتمثَّل في كيفية إصلاح المنظومة الأمنية والعسكرية وإخضاعها لسيطرة الحكم المدني؟
ومن العوائق التي تقف في طريق الفترة الانتقالية، كما ترصدها الدراسة، التركيبة البنيوية للقوى الثورية التي تقف خلف الحكومة الانتقالية، إذ إنها تركيبة غير متجانسة، وإن اتفقت مرحليًّا على إسقاط النظام، لكنها تختلف في طرائق تفكيرها وتعاطيها مع كيفية إزالة آثار النظام القديم، وكيف يكون توجيه مسار الفترة الانتقالية لخدمة أجندة التحول الديمقراطي المستدام. وفوق هذا وذاك، تأتي تركيبة الحكومة الانتقالية المعقدة، التي يحمل أحد أضلاعها الثلاثة بعض الجينات الوراثية للنظام القديم (العسكريين في مجال السيادة)، التي تجعل العسكريين غير مهتمين بتفكيك مؤسسات دولة التمكين التي عاشوا في كَنَفِها، وكذلك إعادة هيكلة المؤسسات العسكرية والقوات النظامية الأخرى لتكون أكثر مهنية وقومية من وضعها الراهن. وعلى الضفة الأخرى، يقف منتسبو حزب المؤتمر الوطني المحلول وحلفاؤهم الذين عارضوا الثورة في الخفاء والعلن من قبل سقوط النظام القديم، ويعمل كثيرون منهم على إجهاض مساراتها بسبب خوفهم على منافع اكتسبوها ومن محاسبة على مفاسد وَلَغُوا فيها وانتهاكات ارتكبوها.
وتشكِّل معالجة التدهور الاقتصادي التحدي الرئيس الذي تواجهه الحكومة الانتقالية، علمًا بأن المادة 8/4 في الوثيقة الدستورية نصت على ضرورة معالجته "والعمل على إرساء أُسُس التنمية المستدامة، وذلك بتطبيق برنامج اقتصادي واجتماعي ومالي وإنساني عاجل لمواجهة التحديات الراهنة". وتأتي أهمية معالجة التدهور الاقتصادي من واقع أنه كان أحد الأسباب التي أدت إلى سقوط نظام الإنقاذ، ولذلك وضعته حكومة ما بعد الثورة في قائمة أولوياتها، وحساباتها الرامية إلى توفير السلع الضرورية لمعاش الناس، وإعادة الثقة في النظام المصرفي، وزيادة الإنتاج المرتبط بالسلع النقدية، وإيجاد حل لديون السودان الخارجية التي بلغت 54 مليار دولار أميركي في آخر إحصاء رسمي، علمًا بأن السودان لم يسدد أكثر من 80% من المتأخرات المستحَقَّة للدائنين؛ لذلك رفضت المؤسسات والصناديق المالية إقراض السودان قبل سداد الديون المستحقة. وأصل هذه الديون لا يتجاوز 17 مليار دولار، وفوائدها وغراماتها الجزائية الناتجة من تأخير السداد تبلغ 37 مليارًا. والشيء الذي يزيد الأمر تعقيدًا أن موازنة حكومة السودان منذ استقلال جنوب السودان عام 2011 أضحت تعاني من عجز مالي كبير، ارتفعت قيمته من 13 مليار دولار عام 2017 إلى 25 مليار دولار عام 2018. بمعنى أن الحكومة السودانية لا تستطيع أن تفي بسداد ديونها الخارجية إلا عن طريق إعفاء هذه الديون، أو إعادة جدولتها، ثم السماح لها بالاقتراض من المؤسسات النقدية العالمية.
وقد أسهمت هذه الأزمة المركَّبة بطريقة مباشرة في زيادة التضخم، وتدني سعر العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، وفقدان الثقة في البنوك المحلية والعمل المصرفي. ويشكِّل الفساد الـمُمَأْسَس والمستشري في دواوين الحكومة ومؤسسات القطاع العام والخاص ضلعًا آخر للأزمة الاقتصادية في السودان. وأكثر مواطن الفساد ترتبط بعقود التعدين المبرمة مع بعض الشركات المحلية والعالمية العاملة، علاوة على تهريب المعدن النفيس (الذهب) بكميات كبيرة خارج السودان، مما أَفْقَد الخزينة السودانية العامة أموالًا طائلة. ولذلك سيكون هذا الملف الاقتصادي مؤشر أداء مهمًّا في تحديد نجاح الحكومة الانتقالية أو فشلها.
من جانب آخر، تُشكِّل التحالفات السياسية والعسكرية التي أنشأها الرئيس المخلوع، عمر البشير، أحد المهددات الإقليمية للأمن القومي في السودان، ويذكر الباحثان منها القوات السودانية التي تحارب في اليمن تحت مظلة التحالف السعودي-الإماراتي. فالتحدي الأساس يتجسد في أن التحالف السعودي-الإماراتي حريص على استبقاء القوات السودانية في اليمن، ومقابل ذلك دفع مبالغ مالية لحكومة السودان وقوات الدعم السريع. فَسَحْب القوات السودانية من هذا التحالف ربما يُحْدِث انشقاقًا داخل الحكومة الانتقالية؛ لأن أعضاء المجلس السيادي العسكريين قد وعدوا الرياض وأبوظبي باستمرار الجنود السودانيين في أرض المعركة إلى أن تنتهي مهمتهم. ومن زاوية أخرى، يلاحظ أن دول المحور السعودي/الإماراتي/المصري حريصة على إبعاد السودان عن المحور التركي/القطري الذي تعتبره حاضنًا لجماعات الإسلام السياسي. وإلى جانب ذلك، فإن جمهورية مصر العربية لها أجندتها الخاصة، والمتعلقة بتخوفها من قيام حكومة ديمقراطية قوية في السودان، يكون لها رأي معارض للوجود المصري في مثلث حلايب، ولها موقف مساند لإثيوبيا في مفاوضات سد النهضة. أما دول المحور التركي/القطري فلم تتخذ خطوات واضحة تجاه تأييد التطورات السياسية في السودان، بالرغم من اهتمامها بمساعدة التحولات الديمقراطية في دول الربيع العربي.
آفاق التحول الديمقراطي في السودان
يضع الاختيار الديمقراطي الطبقة السياسية السودانية بصورة عامة، والذين يتصدَّون لقيادة الفترة الانتقالية المصيرية (2019-2022) بصورة خاصة، أمام أسئلة شائكة ومتشابكة تتصل بأربعة محاور، هي: تهيئة المناخ السياسي الملائم لنجاح الانتقال، وتعزيز الوحدة الوطنية في مواجهة القضايا والتحديات الكبرى للبلاد، وإعادة صياغة البنية الدستورية والقانونية للدولة على أسس ديمقراطية، وضمان كفاءة الأداء التنفيذي لأجهزة الدولة.
أولًا: ضرورة تهيئة المناخ السياسي لتأمين الانتقال السلس إلى الديمقراطية: هل ستنجح الطبقة السياسية السودانية، التي تبدو أكثر انقسامًا وتشتتًا في أعقاب سقوط نظام الإنقاذ مقارنة بالمراحل التي أعقبت ثورتي أكتوبر/تشرين الأول 1964 وأبريل/نيسان 1985، في تحقيق توافق وانسجام سياسي يُؤَمِّن انتقالًا إلى ديمقراطية راسخة ومستدامة في السودان؟ لتحقيق ذلك، تحتاج النخبة السياسية إلى "مراجعات كبرى"، تشمل جميع أطراف المعادلة السياسية، بهدف التأسيس لقواعد جديدة لإدارة الحراك السياسي ودينامياته المحلية، بعيدًا عن الممارسات السابقة التي قدَّمت المصالح الأيديولوجية المغلقة على مصالح الوطن والمواطن. وتأتي في مقدمة تلك المراجعات مراجعة الثنائيات التي أفسدت الحياة السياسية في السودان منذ الاستقلال، مثل ثنائية الحداثة والتقليد، والختمية والأنصار، والشيوعيين والإسلاميين، والشريعة الإسلامية والعلمانية. فالثورات الكبرى عمومًا تقوم على المراجعات، ولا مفرَّ من مراجعات كبرى في السودان على مستويين رئيسيين: على الأحزاب السياسية ممارسة النقد الذاتي المؤسسي لترسيخ الالتزام بقيم الممارسة الديمقراطية في إدارة صراعاتها الداخلية مع وضع معايير أخلاقية ضابطة للأولويات العليا؛ تمكنها من تقديم المصلحة الوطنية العامة على مصالحها الحزبية الضيقة. ويمثِّل المستوى الثاني للمراجعات المنتظرة علاقات الأحزاب الأفقية مع بعضها بعضًا في إطار التنافس والصراعات السياسية، والتي يجب أن تُؤَسِّس توافقات على السياسات والمصالح الوطنية العليا لا الاكتفاء بالتوفيقات الترقيعية التي تضع المنافع الحزبية قبل المصالح الوطنية.
ثانيًا: لابد من إيجاد آليات لتعزيز الوحدة الوطنية والاتفاق في القضايا الوطنية الكبرى بالانفتاح على كافة شرائح المجتمع السوداني وقواه الحية، بعيدًا عن الإسقاطات السياسية المُؤَدْلَجَة، لتنخرط في وضع الاستراتيجيات والسياسات التي تحقق غايات الثورة، وتضمن الانتقال إلى نظام ديمقراطي راسخ ومستقر. ولا ينبغي للتوافق الوطني أن يكون حصرًا على المساومات والاتفاقات بين الأحزاب والقوى السياسية كما جرت العادة في العهود السابقة، بل يجب ضمان مشاركة كافة القوى الحية في المجتمع، لاسيما تلك التي صنعت الثورة، مثل تيارات الشباب، ومنظمات المجتمع المدني، وكافة الفعاليات المؤثرة في أقاليم البلاد في وضع الاستراتيجيات ورسم السياسات التي تخاطب القضايا المفصلية. وهناك العديد من القضايا التي يجب أن تدار حولها حوارات واسعة وصولًا لاستراتيجيات وطنية شاملة لمخاطبتها، ولكن أهمها لهذه المرحلة هي الأزمة البنيوية للدولة السودانية الحديثة، والتي ارتبطت ابتداءً بنشأتها في كَنَف سلطة استعمارية متسلطة، وتعمقت خلال فترات الحكم الوطني بسبب سوء السياسات أو غيابها، مما أضعف قدرتها على الإنجاز إلى حدٍّ كبير، ثم هناك قضية إنهاء الحرب وتحقيق السلام، والإصلاح الاقتصادي والعلاقات الخارجية.
ثالثًا: تبرز قضية إعادة صياغة البنية الدستورية والقانونية للدولة على أُسُس ديمقراطية لتأسيس حكم مدني ديمقراطي مستقر في البلاد. ماذا سيفعل القادة الجدد (مجلس السيادة الانتقالي ومجلس الوزراء الانتقالي) في سبيل إعادة صياغة مهام المؤسسات البيروقراطية والأمنية وتغيير عقيدتها من السيطرة على المواطن إلى خدمة المواطن؟ وهل ستكون القوات النظامية المسلحة، بما فيها تلك التي كانت جزءًا من آلة القمع في ظل النظام السابق، خاضعة لسيطرة الإدارة المدنية وملتزمة بالقانون؟ وكيف ستتم محاسبة الضالعين في ارتكاب تلك الانتهاكات الجسيمة، مع الحفاظ في الوقت نفسه على ولاء القوات النظامية، وطَمْأَنَة المواطنين بأن هذه القوات ستكون في خدمتهم؟ وكيف ستتجاوب السطات الجديدة مع مطالب الذين اُنتُهِكت حقوقهم الإنسانية في ظل النظام القديم وحتى في الفترة التي أعقبت سقوطه؟ ثم ماذا ستفعل السلطات الجديدة في مواجهة الأنماط المتطاولة من الفساد والإفلات من العقاب والتي ترسخت خلال سنوات النظام السابق؟ وكيف ستعزز الحكومة الجديدة من استقلالية القضاء وحرية وسائل الإعلام، وتمكينها كي تسهم في محاسبة المسؤولين، دون أن تشكِّل مراكز قوى معيقة لأداء الحكومة؟ وفي ظل وجود مجموعة من الحركات المسلحة التي كانت تقاتل الدولة في عهد النظام السابق في دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق وشرق السودان، ماذا ستفعل القيادات الجديدة لتحقيق السلام الشامل في ربوع البلاد وتعزيز القبول السلمي المتبادل بين تلك الحركات المسلحة و"أعدائها السابقين" في أجهزة الدولة النظامية؟
رابعًا: لابد من ضمان كفاءة الأداء التنفيذي لمؤسسات الدولة في المرحلة الجديدة لكي تتمكن من أداء وظائفها في ظل الواقع المعقد الذي خلَّفه النظام السابق. فهل يتحلَّى المعارضون السابقون الذين باتوا يمثِّلون حكام اليوم، بالخبرات البيروقراطية والتكنوقراطية والأمنية والقضائية التي تؤهلهم لإنجاز المهام ذات الأولوية، خصوصًا تلك المتعلقة بإدارة الاقتصاد وتقديم الخدمات الاجتماعية وإنجاز مطلوبات العدالة الانتقالية؟ وهل يستطيع القادة الجدد كسب ثقة المواطن محليًّا، والشرعية دوليًّا من خلال تدابير في إدارة مؤسسات الدولة تضمن احترام إرادة أغلبية الناخبين وحماية مصالح الأقليات، بما فيها تلك المرتبطة بالنظام القديم؟ ماذا ستفعل السلطات الجديدة لحشد تأييد واسع من الشعب لصالح سياسات ترمي لتحقيق النمو الاقتصادي وزيادة فرص العمل على المدى البعيد، بينما ستكون تبعاتها على المدى القريب مؤلمة على الشعب؟ وكيف سيتعامل القادة الجدد مع الشارع إن غضب إزاء ما يعتبره فشلًا في تحقيق تطلعاته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؟ وكيف سيواجهون تحدي الانقسام والتشظي في جبهة القوى والحركات التي تحالفت لإزالة النظام القديم؟
تُبيِّن هذه الأسئلة المعقدة والمتداخلة المعضلات والتوترات الحتمية التي تواجه الطبقة السياسية السودانية بشكل عام، ومن يتصدَّون لقيادة الفترة الانتقالية في أعقاب ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 بشكل خاص. ويبقى الرهان معقودًا على النخب السياسية السودانية المؤثرة من أحزاب وحركات مسلحة أن ترتقي بسلوكها وممارساتها إلى مستوى الرهانات الوطنية الكبرى للعبور إلى الحكم المدني الديمقراطي المستقر وفاءً للتضحيات الكبيرة التي قدَّمها الشعب السوداني من أجله. وبعد مرور عام على سقوط النظام السابق، فإن الواقع السياسي السوداني بانقساماته الحادة، والأداء المرتبك لقادة المرحلة الانتقالية في كافة الملفات الأساسية (الاقتصاد، العلاقات الخارجية، إيقاف الحرب وتحقيق السلام، تصفية تركة النظام السابق...إلخ) يثير مخاوف جدية من أن أفق الانتقال الديمقراطي في البلاد ربما بات مسدودًا، وأن مصير التجربة الراهنة في السودان لن يكون بأفضل من سابقاتها في تاريخ البلاد، أو تجارب بعض دول الربيع العربي التي تعرضت لانتكاسات مؤلمة. لكننا نرى أن الوقت لا يزال مبكرًا للحكم على التجربة، وأن الفترة الانتقالية المتفق عليها بين "قوى الحرية والتغيير" و"المجلس العسكري الانتقالي"، في أغسطس/آب 2019، تبقَّى منها ثلاث سنوات.
وستكون السيناريوهات المستقبلية المحتملة للانتقال الديمقراطي في السودان محكومة بشكل أساسي بمستوى أداء الطبقة السياسية السودانية، وما تُحرزه من تقدُّم في المحاور الأربعة: تهيئة المناخ السياسي، وتعزيز الوحدة الوطنية، وإعادة صياغة البنية الدستورية والقانونية للدولة على قيم الديمقراطية، وضمان كفاءة الأداء التنفيذي للدولة. فإن استطاعت هذه الطبقة السياسية، رغم بداياتها المتعثرة، أن تتدارك نفسها، وتستفيد من دروس التجارب الوطنية المتعثرة في الانتقال الديمقراطي سابقًا، ومن عِبَر الانتكاسات المؤلمة في بعض دول الربيع العربي، وتُحقِّق تقدمًا ملموسًا في المحاور أعلاه، فالمرجَّح أن ينجح السودان هذه المرة في اجتياز عتبة الانتقال إلى مرحلة ترسيخ الديمقراطية واستدامتها. وحتى إِنْ لم تُفْلِح في تحقيق المطلوب على الوجه الأتم، فلربما تمكنت الطبقة السياسية من الحفاظ على سلامة الدولة واستمرارية الوضع الانتقالي، ريثما تبرز تيارات جديدة من رحم الحركة الشبابية الواعدة والقوى الحية التي صنعت ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 بوعيها وتضحياتها. أما إذا واصلت الطبقة السياسية السودانية أداءها المرتبك، وعجزت عن تحقيق الحد الأدنى من المطلوبات لضمان الانتقال الآمن للديمقراطية، في ظل تنامي النفوذ الإقليمي والدولي وتدخله في الشأن السوداني الداخلي، ووجود حركات حاملة للسلاح، فإن سيناريوهات الارتداد إلى الحكم الاستبدادي أو الانزلاق نحو الفوضى والحرب الأهلية تبقى واردة بشكل كبير.
للاطلاع على النص الكامل للدراسة (اضغط هنا) وللاطلاع على عدد المجلة كاملًا (اضغط هنا)